الاثنين، 23 مارس 2020

الحروب السرية في لبنان

لا تنفك الحرب في لبنان تثير العديد من التحقيقات الصحفية والتحليلات السياسية. هذه الغزارة في الإنتاج الفكري تسير جنباً إلى جنب مع الشعور بالاشمئزاز الذي تولده دوامة هذا الصراع فليس من يهتم بلبنان، لولا خطف الطائرات. ولولا الرهائن الغربيون الذين خطفوا ويخطفون في الشطر الغربي من بيروت، ولولا العبوات التي تنفجر من وقت لآخر في قلب باريس. خيّل للأوروبيين والأميركيين أنّ أسلم سبيل لتجنّب الإرهاب بإخلاء مواقعهم في هذا البلد، الواحد تلو الآخر، لكن الإرهاب، بعكس ما كانوا يتوقعون لحق بهم إلى عقر دارهم. ففي آذار 1986، تلقى أحد الدبلوماسيين الفرنسيين العاملين في بيروت، الأوامر بإخلاء "قصر الصنوبر" وهو قصر عثماني قديم، يقيم فيه ممثّل فرنسا. وقد تحسر ذك الدبلوماسي لإخلاء هذا المقام المهيب الذي يمثل أحد رموز الوجود الفرنسي في الشرق الأوسط وقال: "إن رحيلنا لن يحل أية مشكلة، وسنمنى بمزيد من الضحايا" . وأثبتت الأحداث المتتالية أنه كان على صواب. وجد الغربيون أنفسهم متورطين، بصورة مأساوية، في هذا الصراع، لكنهم ما زالوا يصرون على اعتبار أنفسهم غير معنيين به، وقد حان الوقت لكي يجيبوا، من دون مواربة عن السؤال الأساسي التالي: كيف ولماذا أصبح لبنان بؤرة للإرهاب المعادي للغرب، وهو البلد الحر المسالم والصديق القديم؟ وبتعبير آخر، بات من الضروري معرفة الأسباب من أجل تقويم النتائج. لم يدرج اسم لبنان في لائحة الدول التي تدعم الإرهاب، مثل سوريا وليبيا وإيران. ولم يخطر على بال أحد تحميل لبنان مسؤولية الإرهاب الذي ينشأ على أرضه، أو يستغل أحياناً بعض المواطنين فيه لإعمال إرهابية. ومن يستمتع إلى حماة ما تبقى من معالم الدولة اللبنانية، يدرك أن هذا البلد قد حرم استقلاله وفقد سيادته على أرضه، بعد اغتصبت فيه صلاحيات كل من رئيس الدولة والمجلس النيابي والحكومة والجيش. أين هو مصدر العلة، إذا؟ ما السبيل أو بالأحرى ما العمل للخروج من هذه الدوامة؟ لا بد من إعادة تكوين عناصر اللعبة واستعراض الدوافع لدى كل طرف، ومعرفة الدور المهم الفاعل الذي تلعبه كل من سوريا، وإسرائيل، إذ أننا نرى هاتين الدولتين العدوتين توحدان جهودهما حيناً وتتصرفان "بتواطؤ خبيث" حيناً آخر لبلوغ مآربهما، على حد تعبير رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون الذي كان يعلق على الأجواء الغامضة والتحريض اللذين سادا مواقفهما خلال أحداث الشوف عام 1983. ذلك أن الدول المشرقية لا تتبع بالضرورة، رغم بعض المظاهر، منهجية عقلانية شبيهة بالنمط الغربي. فالنجاة بالنفس مهما كان الثمن هي الشعار المتبع أكثر منه في أي مكان آخر، ولذلك تبدو لها المنهجية العقلانية التي تمارسها الديمقراطيات الغربية نوعاً من الترف الزائد. ولهذا السبب، كان لا بد من البحث عن المعطيات والعوامل الكامنة في أساس نهج تلك الدول المشرقية، التي تخفي وراء أقنعتها الوهمية الحقائق الأكثر عمقاً. من بين هذه المعطيات الرئيسية، تعتبر "الطائفة" أهم ظاهرة في هذا المجال، فالطوائف في الشرق الأوسط تزخر بالحيوية وتتحلل تماماً، شئناً أم أبيناً، من أي تبسيط وتفسير "تقدمي" لمسارها، ولها في الغالب أصول دينية. وهي تحقق حالياً انطلاقة جديدة تتعدى المجابهة الطائفية الهامشية. وتتطلع هذه الجماعات إلى الاندماج في الدولة، أو إذا استحال عليها هذا الأمر، إلى منافستها والحلول مكانها، تدفعها إلى ذلك اعتبارات اجتماعية وسياسية خاصة وإن محاولة رسم هذا الواقع تستدعي المزيد من التبصر. لذا أفرد جزء أساسي من هذا الكتاب للعامل الطائفي، على الرغم من تشعب هذا الموضوع وتعدد جوانبه. ذلك أن هذه الجماعات تتفاعل في ما بينها من خلال الخصائص التاريخية والجغرافية والنفسية والمناهل الروحية والأخلاقية الخاصة بكل منها. وقد جهد للتعريف بهذه الثوابت التي بواسطتها يمكن فهم سلوك هذه الجماعات من خلال علاقاتها في ما بينها وبين الغرب. فالعلويين مثلاً وهم الطائفة الحاكمة حالياً في سوريا، يحاولون اليوم إخراج فرنسا من لبنان، فيما كانوا لزمن غير بعيد، يطلقون على فرنسا، أسوة بالمسيحيين في لبنان، تسمية "الأم الحنون". إن من يراقب طريقة عيش الموارنة والدروز والشيعة والسنة والروم الملكيين الخ... يلاحظ أيضاً مدى حذق إسرائيل وسوريا وإيران في فهم الدوافع العميقة والمتضاربة التي تحرك "العائلات اللبنانية"، وكيف توصلت كل من هذه الدول إلى استغلال هذه الدوافع لتحقيق مآربها الخاصة. وإذا افترضنا أن هذه الدول لا تمسك بكل خيوط هذه اللعبة، فإنه لا يسعنا تجاهل دور اللبنانيين لأنهم لم يدركوا، في غالب الأحيان، أبعاد اللعبة الجارية، وكثيراً ما ضللتهم التحالفات التي عقدوها ووقعوا ضحية من استضافوا من الوافدين إليهم. بيد أن ها الكتاب ليس رواية جديدة عن الحرب في لبنان ولا مجلداً آخر عن الإرهاب. فالتحقيق التي أجريناها لدى مختلف الأطراف والجبهات، والبحث عن الشهادات الحية والوثائق غير المنشورة، كل ذلك قد أتاح لنا، على ما نعتقد، تجاوز المظاهر الفولكلورية والسطحية. وقد تحرينا عن الوقائع والحقائق بعيداً عن الصور الجاهزة التي تجترها وسائل الإعلام، كما يتيح لنا الدعوة إلى إعادة النظر في تلك الكليشيهات وذلك الكلام الذي يتكرر إلى ما لا نهاية حول الحرب في لبنان كذلك كشفنا أقنعة هذه الحرب ورهاناتها الخفية ومخططاتها وألاعيبها الدبلوماسية المنمقة. وحاولنا إبراز المعنى الكامن خلف السلوك والكلام اللذين توحي بهما "التقية"، هذا التحفظ الذهني الخاص ببعض الأقليات في الشرق, وباختصار يكشف هذا الكتاب الأهداف الخفية للحرب ويعريها. Via مكتبة اقرأني http://qrtopa.com/rss

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق