الرواية تتحدث عن ليبيا في عهد القذافي الذي جاء الى الحكم بانقلاب ضد الرئيس السنوسي، حيث ارادت بريطانيا عندها اي في سنة 1969 تغيير وجوه الحكم، فاستبدلت الجمهورية بالملكية واتت بالقذافي بدل السنوسي. تركز الرواية على عمل المخابرات في ليبيا في عهد القذافي، ولا يختلف وضع ليبيا في هذا الجانب عن اي بلد من البلدان العربية، فكلها في هذا الجانب سواء. سلطة المخابرات فيها مطلقة، وتأخذ الناس بالشبهات، والاصل عندهم ان المواطن مجرم حتى تثبت براءته. وليس -كما هو الحق- ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته. فالاصل هو براءة الذمة. واذكر ان نظام القذافي اعدم في اواخر عام 1978 اربعة عشر شاباً من شباب حزب التحرير، المعروف عنه انه لا يجيز استعمال العنف او الناحية المادية في دعوته. وسلاحه هو الفكر فقط، ومقارعة الحجة بالحجة. وهذا معلوم عن الحزب للقاصي والداني. أعدموا المعلمين منهم في مدارسهم امام ابنائهم وطلابهم، حتى يلقوا الرعب في نفوس الناس جميعاً. اعدموهم وسط تصفيق المخابرات واعوانهم، ودموع ذويهم واحزانهم التي لم يستطيعوا الجهر بها. وتبين الرواية ان كل معارض للنظام هو خائن يستحق القتل او الاعدام. وغالباً ما يضع كل بيت في ليبيا صورة كبيرةً ملونةً للعقيد القائد، حتى يثبت ولاءه للنظام، وهذه الصورة كان يضعها حتى المعارضون للنظام حتى لا يكتشف امرهم، فهم يستترون بها ويدفعون بها ظلم النظام الحاكم عن انفسهم وذويهم. تتعرض الرواية لكثير من العادات الليبية في الخطبة والزواج، وهي عادات قريبة جداً من عادات البداوة، او قل هي عادات البدو بنظرتهم المعهودة للحريم، وتزويج الفتيات الصغيرات جبراً وغصباً مخافة ان يلحقن العار باهلهن. وصفت الرواية ليلة العرس وصفاً واضحاً، حيث تقول بطلة الرواية: "كانت غرفة كئيبة، لا شيء فيها سوى سرير ضخم، وعلى احدى وسائده منديل ابيض مربع مكوي. وحينها لم ادرك البتة لاي شيء هو". اخبرتها ابنة عمها خديجة ان زوجها فقد صبره معها وثقبها باصابعه وجعلها تنزف ليثبت عذرية زوجته. وقالت: (لمحت ابي يدس مسدساً في جيبه وقال لامها:"سيراق الدم بطريقة او باخرى". وفسرت لها امها ذلك فيما بعد، فقالت: لو لا سمح الله تبين انك لست شريفةً وعذراءلما توانى والدك عن قتلك). وفي تلك الليلة ليلة الزفاف فقدت وعيها وعندما افاقت لم تر عريسها في الغرفة، بل رات اباها يبتسم وامها خلف ابيها تضم المنديل الابيض الذي تلطخ بالدم الى صدرها، وعيناها تذرفان دموع السعادة (من صفحة 14 و 15 بتصرف). كانت حصيلة تلك الليلة وبعد تسعة اشهر انها انجبت سليمان، وسليمان هذا هو سارد الرواية، يصف انعزالية والده بقوله: "حتى طريقته في السباحة نمّت عن انعزالية، اذ يعوم على ظهره واصابع قدميه تشير الى السماء، وعيناه مغمضتان، غير آبه الى اين قد يجرفه الماء، وكنت احياناً اتكور قربه في البيت وهو يقرأ بتركيز مدهش، ونادراً ما لاحظ وجودي". ويصف سليمان الشيخ مصطفى الاعمى امام مسجدهم المحلي بانه رجل تقي، يغطي عينيه بنظارة سوداء سميكة، الا ان سليمان استطاع ان يلمح احدى عينيه من الجانب مفتوحة تفتش عن الضوء كحلزونة استيقظت تحت المطر. هذا الشيخ كان صوته جهورياً رخيما، وكان فرج (ابو سليمان) يحضره بعد صلاة الجمعة ليبارك بيتهم بقراءة بعض الصور، وكان الشيخ يقرأ ووجهه مسدد الى الاعلى ويده اليمنى قرب اذنه، ويبحر صوته طليقاً في انحاء البيت كافةً. ويصف سليمان ايضاً اقتحام المخابرات لبيتهم، يسألون عن فرج (ابو سليمان) وزعقت في وجوههم ام سليمان (لن تدخلوا). فصاح بها رجل منهم (ابتعدي عن طريقي). وخيّل الى الطفل سليمان ان عددهم بالمئات او الالاف لضجيجهم وصياحهم. وبدا وقع صوت امه مثل سمكة صغيرة قلقة ووحيدة في اعماق البحر. وقالت: (رايتكم تلاحقونني امس. عيب عليكم ان تلاحقوا امرأة وابنها على ذلك النحو، اليس لديكم شيء افضل يشغلكم)؟! وهم الرجال انفسهم الذين ضربوا الاستاذ رشيد، وجعلوه يختفي مثل ملح في ماء. هكذا وصفته زوجته بعد ان لابت عليه في مراكز الشرطة ومكاتب اللجان الثورية. ثم عادت تصفق يداً بيد وتتمتم: (اختفى مثل حبة ملح في ماء). ما اروع هذا الوصف! حيث الداخل الى دوائر المخابرات في البلاد العربية جميعاً مفقود لا يعود، والخارج منها -ان كتب الله له السلامة والعودة والاياب- مولود من جديد. ركز السارد على وصف بيت فرج (ابو سليمان)، وقطب الرحى فيه هي الام التي عانت وعانت وعانت منذ خطبتها وزواجها وانجابها لسليمان، وادمانها على الخمرة (ام الخبائث)، واعتقال زوجها من قبل المخابرات، واعادتهم ايّاه لزوجته محطما مهشماً بين الحياة والموت، حتى انها منعت ولدها سليمان من رؤيته مدة طويلة لسوء حالته، وخوفاً منها على ولدها ان ينهار اذا راى الحال التي وصل اليها والده. واختيار الكاتب لاسم (فرج) لابيه، فيها ايماءة لتفريج الكرب وازالة الهم والغم، او لعل الله سبحانه ان يفرج عنه. وما جاء في الرواية من اوصاف الام وهمومها ينطبق على ليبيا باسرها، فهي الوطن الام، وهي التي عانت ولا تزال تعاني في عهد القذافي ولجانه الثورية. والحديث بالحديث يذكر، والحديث ذو شجون. وهذا ما ذكرني الان انه فى اواخر الثمانينات، وبعد ان خرج الكتاب الاخضر،بموضوع كتبته مجلة الحوادث الاسبوعية، لصحفية ايطالية طلبت مقابلة القائد العقيد، فوافق على ذلك ظناً منه انها ستجري تحقيقاً صحفياً حول الكتاب الاخضر، الا ان ظن العقيد قد خاب عندما لم تاتي الصحفية على ذكر الكتاب الاخضر من اول الحديث، فاستشاط الرئيس العقيد غضباً وحاول ان ينهي المقابلة قائلاً للصحفية: "كنت اظن انك ستسألينني عن الكتاب الاخضر". فاجابته: سأسأل عن الكتاب وقالت: وبالمناسبة يا سيادة الرئيس، الكتاب الاخضر –والذي هو اصغر من علية المكياج التي احملها في حقيبتي- هل انت الذي كتبه؟! ام كتب لك؟! وقالت في نهاية المقابلة: سيادة الرئيس، هل تؤمن بوجود الله؟! فأجاب: اؤمن، ولكن لماذا هذا السؤال؟ فقالت: لانني ظننت انك الله. فجاء في الكتاب الاخضر ان كلمة منه تعمر الكون، وكلمة تدمره. ولا يقدر على ذلك الا الله. فهذا انموذج من حكام بلاد العرب والمسلمين ومن كتاباتهم -ان كانوا يكتبون، او حتى يعرفون القراءة او الحديث اذا قرؤوا او تحدثوا- وهذه هي نظرة الغرب اليهم، فهم –وان اشادوا بهم- انما هم يستهزئون بهم ويسخرون منهم. وعوداً الى الرواية فالرواية اجاد كاتبها في كل ما وصف، وصورت لنا الواقع المعاش في ليبيا في عهد القذافي تصويراً دقيقاً، ومهما كانت الكتابة مفصلةً لهذا الواقع، فلا تغني الكتابة عن قراءة الرواية.
source https://qrtopa.com/book/13802
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق