السبت، 19 مايو 2018

تشاو روبرتا

رسمت السيناريو في ذهني، وكنت استرجع المشهد المتخيل مرات عدة. كيف ستفتح لي الباب فأرتمي في حضنك، وقد تنفلت الحرقة من مقدرتي على التحكم بها فأشهق، ثم سأحكي لك عن الحادثة. او ربما في سيناريو بديل، يجب ان اتماسك وأسرد تفاصيل الحادثة اولاً، ثم أبكي ذلك البكاء المؤجل في حلقي، منذ اكثر من ساعة. كان يجب ان اتخيل التفاصيل المقبلة للقائنا، لأنها هي التي سندتني من السقوط في الطريق العام. حبست دمعتي لئلا استثير شفقة المارة في الطريق، او ألفت انتباه ركاب الحافلة بعد الصدمة التي تلقيتها. تخيلت كيف سأدخل الى البيت بعد ان اضغط على زر الجرس، لن افتح بالمفتاح قلت لنفسي، سأدق، ولن اضغط طويلاً على زر الجرس، لئلا اثير فزعك. وعندما تفتح ستراني اغطي خدي الايمن بكفي وسأبدأ في قص الحكاية التي جرحت كبريائي مساء اليوم. سأقول لك بعد ان اهدأ انني ما كنت قادرة على ترك نصف وجهي المصاب مكشوفاً للعيان، مثل عورة. صحيح انني كنت ضحية للعنف، لكنك تعرفني جيداً وتعرف كم اكره التصرف بسيكولوجية الضحية. تذكر عندما لجأنا الى هذا البلد هرباً من قمعين: ارهاب السلطة وارهاب الاصوليين؟ وتذكر اليوم الذي قدمنا فيه اللجوء هنا، يومها تحدثت بقوة مع الموظف البريطاني المكلف ملفنا، قلت له: "أنا وزوجي وابنتي لن نبقى هنا بعد زوال الاسباب التي تهدد حياتنا بالخطر. نحن لا نحلم ببلادكم كجنة بديلة، بل كملجأ يمنحنا الحياة الآمنة الى حين. لم يبد عليك الارتياح من ردودي وانتقدتني بعد ان خرجنا، انني خاطبت الموظف البريطاني كما لو ان وجودنا في بلاده منّة، لا طلباً للأمان". "كان يجب ان تكون نبرة صوتك اخف حدة وأنت تتحدثين اليه". قلت من دون ان تنظر في وجهي ونحن نسير باتجاه محطة القطار القريبة من وزارة الداخلية في منطقة كرويدن. أزعجت من الهواء البارد ومن تحاملك عليّ، ورددت بنبرتي اياها التي لم تعجبك: "لكن موظف دائرة الهجرة استجوبنا استجواب المجرمين المتسللين الى حدود بلاده". تصمت عندما لا يروق لك كلامي، تتركني احكي وأنفعل، وتلتزم انت الصمت، تكبّراً. يغضبني صمتك في لحظة مفتوحة على الحوار، فأبدو في حضرة تجاهلك إمرأة ثرثارة. على اي حال سيناريو اليوم باحتمالاته المتعددة لم ينجح، فعندما ضغطت على جرس الباب، كان قلبي يدق توجساً من اللحظة التالية التي ستصدمك وتجعلك تشاركني الحال المؤجلة. كيف حدث ما لم نتوقعه، هذا الذي هربنا منه في بلاد قست علينا كثيراً في السنوات الاخيرة؟ حدث سيجعلنا نعيد التفكير بفكرة المنفى والامان، ان هو تكرر معنا. الا انك عندما واجهتني كنت تحمل بكلتا يديك كأساً وسيجارة. انشغلت الكفان عن اي فعل آخر، كأن تحتضنني مطمئناً وماسحاً على رأسي. لم تكن انت الذي فتحت لي الباب. دخلت انا بمفتاحي، لأنك لم تسمع رنين الجرس. كنت وصديقاك، تتناقشون بصوت عال في القضية الوطنية، جلوساً في شرفة الشقة المطلة على منحدر جميل في حي هامستيد. لا بد من انك لمحت طيفي ينسحب بسرعة من الصالة، فلحقت بي. لم تسألني عن سرّ خدي الايمن الذي استرخت عليه كفي "ما بك؟" وأردفت بسؤال آخر: "لم اتمكن من احضار البنت، انشغلت بضيوفي، هل تذهبين انت؟". هكذا اذاً رششت الملح على الألم ليستعر اكثر، كنت لحظتها اجلس على حافة السرير واجمة من صفعة الاسئلة الباردة، على كلا الخدين هذه المرة. خمنت متسائلاً: "هل هو ضرسك؟". "لا. تعرضت للعنف في الشارع". لا تزال يداك منشغلتين بما تحمل، وطالت مساحة الرماد المحروق من السيجارة فتحركت صوب النافذة ونفضتها في الهواء الخارجي. كأنك لم تستوعب الحدث، ام انك استوعبته وكنت تحلله منطقياً يا استاذ الفلسفة، عندما سرحت قليلاً! سألتني عن مواصفات المرأة المعتدية وإن كانت معروفة لديّ. تحولت الى محقق شرطة وكنت لحظتها احتاج الى صدر حبيب. جهامتك وشعرك الذي غزاه شيب مبكر، يطلان عليّ مثل تمثال مهيب، فاشعر بقزامتي فوق حافة السرير. كائن قزم ينتظر لفتة من الشفقة والحنوّ. تنظر الي من عل وتدقق عن بعد في آثار ارتطام خدي بالجدار، الذي لولا انني حميته بكفي... و... باخت الحكاية وانفلش السيناريو الذي كان سيخفف عني وقع الصدمة/ الاهانة. قبل ساعة واثناء سيري في شارع مزدحم اقتربت مني امرأة ضخمة الجثة، لاحظت توجهها السريع نحوي قبل وصولها بأمتار عدة، خانني ذكائي واستبعدت اي نية سيئة، لكنها فاجأتني بدفعة من كتفها الممتلئة، ورمت بجسدي النحيل يميناً. فعلت ذلك وهي تصرخ بهستيرية: "اذهبي الى الجحيم". ولولا انني حميت وجهي بكفي لتعرض رأسي لما هو اخطر. لم اروِ لك الحادثة كما اشتهيت ان تروى، حوّلت انت التفاصيل الى مجرد اجابات عن اسئلة: كيف ومتى، ولماذا تعتقدين انه موقف عنصري؟ لم تكن في جلسة حوار فكري ايها السياسي اللاجئ، كنت في غرفة النوم مع امرأتك التي لم تصحُ بعد من هول الصدمة! ان لم تتعمد المرأة المعتدية ما فعلته، كانت توقفت بعد شهقة الالم وبعد ان تجمع المارة حولي. لكنها اكملت السير منتصرة. لماذا انا؟... هذا ما اردت ان تقوله لي. حسناً لا بد من ان الاعتداء كان رد فعل سريعاً على احداث العنف التي شهدتها مدينة مانشستر قبل اسابيع بين آسيويين وإنكليز. ربما ان بشرتي السمراء استفزت تلك المرأة، وهنا يصنفون الافراد بحسب لون بشرتهم: ابيض اوروبي، ابيض غير اوروبي، وأبيض من اصول اخرى (حدد). اسود افريقي، اسود كاريبي، او اسود من اصول اخرى (حدد). هكذا تتكرر الاسئلة في الاستمارات لتطاول كل الالوان، فإلى اي الالوان انتمي انا في الشارع؟ الى سمرة شمال افريقية، الى سمرة عربية، ام ان علي ان اكون اكثر تحديداً؟ هل تراه كان عنفاً مجانياً من النوع الذي يحدث كل يوم: عجوز يضرب في بيته من مراهقين، وعجوز اخرى تسرق في الطريق بعد ان رماها احدهم ارضاً ليسرق منها مبلغ تقاعدها الرسمي بعد ان تسلمته للتو من مركز البريد. ربما ان المرأة المعتدية عصابية، وكنت انا ضحيتها، ربما ان هناك دوافع اخرى. لم تكن اللحظة مفتوحة للاحتمالات. كانت لحظة لا تحتمل اكثر من التعاطف. برد الغضب في داخلي ولم يهدأ. وأنت، يداك مشغولتان بسيجارة وكأس. والصديقان ينتظران على الشرفة في ليلة صيفية لطيفة قلّ ان تحدث في ليالي مدينة لندن. هل هي غلطتي انني تعرضت للأذى في الوقت الخطأ، هل كنت ستتصرف بحساسية اكبر لو كنت وحيداً في البيت، او لو لم يكن الجو صحواً! بدأ المطر بالنث، فمنح زجاج الحافلة انعكاس المرايا. تتداخل المشاهد المضيئة من داخل الباص وخارجه مع مشاهد من عمري: الحب، الزواج، النشاط السياسي لكلينا، الملاحقة، قرار مغادرة البلاد بعد تهديدات الاغتيال التي وصلتنا، الانتقال الى هنا. متابعتي دراسة الهندسة الالكترونية، ابنتي التي اتركها عند جليسة اطفال حين يكون ابوها خارج البيت. عملي في اوقات الفراغ في المقاهي وتوزيع المنشورات الدعائية الخاصة بمطاعم البيتزا والسوبر ماركت، في مقابل اجر زهيد يدعم مصاريفنا. كم دارت معي ابنتنا نادية ولم تكن تجاوزت الرابعة من عمرها، تسابقني لتضع اوراق الاعلانات الملونة في فتحات الابواب المخصصة للبريد. اننا نحوّل التعب الى لعب ونضحك، فيخف تأنيب الضمير بداخلي لأنني اشغل طفلتي معي في تحصيل لقمة العيش. تمر المشاهد امامي مسرعة وأنا احدق الى يميني، الى زجاج النافذة المغبش قليلاً برطوبة مطر انهى صحو يوم صيفي في لندن، ام تراها غبشة عينيّ وقد تسربت رطوبة دمع جهدت ان اتحكم فيه!... لا اريد شفقة عامة من حولي، من اشخاص منهكين بعد يوم عمل طويل وتفاصيل حياة مرهقة. لكن لماذا لا اتذكر اللحظات السعيدة؟ نجاحي في الجامعة البريطانية الذي جلب لي عرضين للعمل بشروط ممتازة. لماذا لم تبد مبتهجاً مثلي عندما قرأت عليك رسالة شركة الهواتف، تلك التي ابدت حماسة للبحث الذي قدمته في الماجستير عن تكنولوجيا الاتصالات، الرسالة التي عرضت علي العمل بامتيازات لا تقاوم؟ "مبروك"... قلت على مضض. كأنك استكثرت تفوقي في البلد الغريب، كأنك غضبت من رفيقة درب لم تخفف عنك وحدتك وتمنح نفسها خالصة للمنفى. هل هذا هو سرّ وجومك قبل قليل؟ ارتحت لصفعة اعادت التوازن الى صورتي في ذهنك، زوجة سياسي منفي، غريبة في بلد غريب، وليست لاجئة تتمتع بحق النجاح والثناء، منفردة؟ رفيقة ليس بالضرورة ان يحمل تقديرها درجات PLUS. ولم لا تحمل تقديرMINUS في نشاطها، درجات سلبية في مواصفاتها، كي تتوازن شخصيتها مع واقع وجودها في المنفى! عندما فتحت الباب ونزلت، لحقت بي وصحت من اعلى السلَّم: الى اين انت ذاهبة؟ عرضت ان تذهب بنفسك لاحضار الطفلة، لم اجبك، خرجت من المبنى وأنا افكر بمسز روبنسون، السيدة الانكليزية التي نترك عندها صغيرتنا نادية حين يكون كلانا خارج البيت. قبل ساعات عدت انت لتلحق بموعدك مع الصديقين، وتجاهلت حقيقة ان هذه السيدة دقيقة في مواعيدها وترفض ان يترك الاطفال عندها الى ما بعد الساعة السادسة. امرأة انكليزية بامتياز، وموسوسة بالانضباط. سأضطر لمواجهة تقريعها الذي تصدره بصوتها الرفيع وهي تفتح لي الباب، زامة شفتيها الرفيعتين فتنكشف خطوط التجاعيد التي بدأت تكثر حولهما. لكن احزر ماذا حصل؟ صرخت عندما رأتني: "يا إلهي من فعل بك هذا؟". انفرطت دموعي، فنست مسز روبنسون تأنيبي لأن الطفلة غفت في الداخل، وأمسكت بكفي طويلاً بين يديها وهي تربت عليهما، بعد ان اجلستني على اريكة كانت فاخرة يوماً وبهت لونها مع الزمن. راحت تواسيني وأنا احدق في وجهها محاولة اكتشافها من جديد، أهي ذاتها المرأة التي كنا نشبّهها بالمسز ثاتشر محيلين الى تسريحة شعرها، وحزمها؟... احضرت من الداخل كمّادة مبلولة بمياه باردة، وضعتها فوق خدي المتورم. قالت: "يجب ان نسجل محضراً عند الشرطة غداً. الوقت تأخر الآن. لا يمكن ان يمر فعل تلك المرأة الشريرة من دون عقاب. اما الآن يا عزيزتي، استرخي قليلاً، وسأعد لك a nice cup of tea الشاي سيعيد الدفء الى كفيّك الباردتين"

source https://qrtopa.com/book/13800

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق