الاثنين، 21 مايو 2018

مسرحيات تشيخوف من بلاتونوف الى بستان الكرز

هذا الكتاب محاولة جادة متواضعة في الكشف عن أسلوب تشيخوف, عن طريقة تفكيره, عن معتقداته, أي عن أصالة هذا الكاتب الكبير في تاريخ الأدب والفن العالمي, ولعل هذا الكشف يقودنا إلى البحث عن عالم تشيخوف الخاص الذي تشكل في سنوات الثمانينيات من القرن التاسع عشر, تلك الفترة الحالكة المعتمة في تاريخ الحياة السياسية والاجتماعية في روسيا. ولايدعي هذا الكتاب الإحاطة بعالم تشيخوف, هذا العالم الكبير الواسع الذي قد يتوه الباحث في أعماقه مالم يمسك بقلب هذا العالم, بالكاتب نفسه. أجل, إن هذا الكتاب محاولة ليس إلا في الإمساك قدر الإمكان بفن تشيخوف المسرحي, محاولة في التعرف على مسرح تشيخوف, يقود صاحب هذا الكتاب القارئ في مجاهل وأعماق هذا الفن التشيخوفي الأصيل. يقف فيه معه على خصائص الأبعاد الموضوعية والفنية في مسرحيات تشيخوف, يجهد, قدر الإمكان, في أن يبين عن مقومات هذه المسرحيات, عن البناء الفني, عن الأفكار والمثل العليا, عن القيم التي كان يبحث عنها تشيخوف على امتداد خمسة وعشرين عاما, يعتمد في ذلك على كثير من الأبحاث والدراسات التي حصل عليها في وطن الكاتب. ويبدو أن المسرح هو الجزء الأهم في تجربة تشيخوف الإبداعية, تلك التجربة التي لاتقبل التجزئة. تشيخوف القاص هو تشيخوف الكاتب المسرحي, إذ يكمن المسرح في أقاصيص الكاتب وقصصه, وتكمن القصة والأقصوصة في عمق مسرحياته. لقد حدد الناقد الروسي أ. روسكين أسلوب وصفات مسرحيات تشيخوف بأنها " مسرحيات قصصية (1) ", ويرى هذا الباحث أن " مسرحيات تشيخوف عبارة عن روايات طويلة كتبت بإيجاز ". الدراما هي الشكل الأهم في تجربة تشيخوف الإبداعية إذ قدر لها أن تحمل كلمة الكاتب, تعميماته, استنتاجاته, آراءه, موقفه من معاصريه ومن الحياة التي عاصرها. تشيخوف يصب في مسرحياته مجمل القضايا الفكرية الاجتماعية والجمالية التي شكلت حجر الأساس في حياته. القضايا الفكرية الاجتماعية, أبعاد الكاتب الجمالية التي نجدها في أماكن مختلفة داخل قصصه وأقاصيصه, تضع نفسها في مسرحياته دون حجاب, نجدها مجتمعة, واضحة تفصح عن نفسها على أكمل وجه. تشيخوف في مسرحياته لايقف عند جزء معين, عند جانب محدد من جوانب الحياة المترامية, إنه يعمل على احتواء أكبر قدر ممكن من هذه الجوانب, يقدمها إلى القارئ في صورتها المتطورة, إذا سبق أن تناولها في هذه القصة أو تلك الأقصوصة. كثير من المواضيع التي يعالجها تشيخوف في أقاصيصه وقصصه نجدها في مسرحيات الكاتب, كثير من الشخصيات القصصية التشيخوفية نجدها في أعمال الكاتب المسرحية. بيد أن هذه الشخصيات وتلك المواضيع لاتكرر نفسها قدر ما تتطور, تنمو حيث تصبح أوجه التشابه في مقدار أوجه الاختلاف. من هنا يضع الكاتب كلمة جامعة شاملة في مسرحياته عن الحياة والناس قد لا نجدها دائما في أقاصيصه وقصصه. المسرح هو ذلك الجزء الشاق المضني في تجربة تشيخوف الإبداعية. كتابة مسرحية جديدة, ظهورها في الأسواق الأدبية أو على خشبة المسرح كانت تضع تشيخوف في امتحان عصيب أمام النقاد والقراء على السواء. وكثيرا ما يحتدم الخلاف حول هذه المسرحية أو تلك من أعمال الكاتب. هذه المسرحية أو تلك تضع عند خروجها أمام الكاتب والقارئ وأمام الناقد أسئلة جوهرية متعددة تمس تشيخوف في عمق إبداعه المسرحي : هل كان تشيخوف مسرحيا جوهريا في هذا العمل أو ذاك ؟ هل يملك الكاتب الحق في أن تقدم مسرحياته على خشبات المسارح ؟ هل يواصل تشيخوف الكتابة للمسرح أم يقف عند القصة والأقصوصة ؟ كل هذه الأسئلة تضع نفسها عند ظهور مسرحية تشيخوفية جديدة في الحياة الأدبية الروسية. وهي أسئلة تحمل في جوهرها نوعا من الشك والارتياب في عبقرية تشيخوف المسرحية, ذلك الشك الذي دمر حياة الكاتب وساعد على انتشار الوباء في جسمه. عانى تشيخوف معاناة لاحدود لها في كتابة المسرحيات إذ كثيرا ما تصبح كتابة مسرحية جديدة مصدر عناء دائم في حياة الكاتب يترك طابعه المدمر على صحته. هناك من يرى أن أسباب النزيف الدموي الحاد الذي أصاب تشيخوف في مارس من 1897 م, ذلك النزيف الذي كان يمكن أن يودي بحياة الكاتب, تكمن في سقوط مسرحية " النورس " على خشبة المسرح في 17 أكتوبر من عام 1896 م. أجل إن كل مسرحية من مسرحيات تشيخوف تحمل تاريخا طويلا من المعاناة الدائمة والعمل الشاق المتواصل, ولعل المسرح هو الهم الأكبر في تاريخ حياة الكاتب. ونحن لازلنا نتذكر ذلك الجهد الكبير الذي بذله تشيخوف في كتابة مسرحيته الأولى " بلاتونوف " أو " جيل بلا آباء ", إرساله المسرحية إلى الممثلة المشهورة آنذاك م. ن. يرمولوفا التي رفضت أن تقدم هذا العمل على خشبة المسرح, توقف تشيخوف عن الكتابة للمسرح مدة عشر سنوات. ونحن ندرك حقيقة المعاناة التي حملتها إلى الكاتب مسرحيته الثانية " إيفانوف " التي قدمها إلى القارئ والمشاهد على أنها كوميديا (قدمت على مسرح كورش عام 1887م), ثم قدمت على أنها دراما (عرضت في مسرح أليكسندر عام 1889 م). ثم ذلك الخلاف الذي دار حول تقويم هذه المسرحية والبطل الرئيس فيها إيفانوف, معاناة الكاتب هنا فكرية فلسفية على الأغلب تقوم على أساس الكشف عن بطل العصر, على أساس الكشف عن معاناة المجتمع الروسي, معاناة المثقف في البيئة الروسية, وكانت مسرحية الكاتب " شيطان الغابة " قد وضعت أمام الكاتب جسرا طويلا من المعاناة الإبداعية التي ترتبط ارتباطا عضويا بمعاني البحث عن مفهوم مسرحي جديد, عن قوانين مسرحية جديدة, عن طرائق وأساليب تحمل هذا الفن إلى صفحة جديدة في تاريخ المسرح الروسي والعالمي. لم يصل الكاتب إلى مبتغاه للوهلة الأولى إذ ظل هناك ذلك التناقض بين الشكل الجديد وبين المضمون القديم قائما, ولعل الشكل الجديد نفسه لم يتبلور على تلك الصورة التي كان يطلبها تشيخوف. ويبدو أن معاناة تشيخوف حتى هذا الوقت تحمل طابعا مزدوجا, البحث عن الشكل الجديد, عن البطل الجديد, عن الأساليب الجديدة, يرتبط بالبحث عن مفاهيم وقيم جديدة, عن مفاهيم وقيم العصر الذي كتبت فيه هذه المسرحيات الثلاث " جيل بلا آباء ", " إيفانوف ", " شيطان الغابة ", وكانت معاناة البحث الفكري والإبداعي داخل المسرح التشيخوفي هي معاناة البحث عن الفن والحياة.

source https://qrtopa.com/book/13837

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق