الثلاثاء، 3 نوفمبر 2020
أمير الذباب
نقلاً عن العربي الجديد "زيد خلدون جميل" يعتبر النقاد رواية «ملك الذباب» (Lord of the Flies) التي نشرت عام 1954، نافذة على الجانب المظلم للطبيعة البشرية والحياة بكل قسوتها، ومن اهم العلامات الفارقة للأدب الإنكليزي في القرن العشرين، التي كانت سبب حصول مؤلفها وليام غولدنغ، على جائزة نوبل للآداب عام 1983. وكانت لسنوات طويلة جزءا من منهاج الأدب الإنكليزي في المدارس الثانوية البريطانية، وترجمت إلى لغات عديدة. ولكن الرواية بقيت محصورة نسبيا في الأوساط الثقافية الغربية، بعيدا عن الأوساط الشعبية، والسبب هو عدم ذكر الرواية في الإعلام السياسي العالمي، وعدم اهتمام شركات السينما بها، لتعقيد تفاصيلها، وكون جميع أبطالها من الفتيان، ولذلك لم ينتج سوى فيلمين فقط عنها. أحداث الرواية تبدأ الرواية بعملية إجلاء مجموعة من الفتيان البريطانيين، تتراوح أعمارهم ما بين السادسة والثانية عشرة من بريطانيا بالطائرة. وبعد مغادرة الطائرة الأجواء البريطانية، يصل الطائرة خبر انفجار قنبلة نووية في بريطانيا، وأثناء تحليقها فوق المحيط الهادي تتعرض للهجوم من قبل طائرات معادية، ويضطر الطيار إلى القيام بهبوط اضطراري على جزيرة غير مأهولة، ما يؤدي إلى مقتله، ولكن الفتيان لم يصابوا بأي أذى، وينجحون في مغادرة الطائرة واستكشاف هذه الجزيرة. ويكتشف «رالف» و«بيغي» الأكثر تعليما وذو النظارات قوقعة صَدَفية على ساحل الجزيرة، وانه عند النفخ فيها تصدر صوتا كالبوق، فيستعملونها لدعوة الباقين للتجمع. وهذا ما حدث، حيث تجمع الجميع واختاروا «رالف» زعيما لأنه الأكبر سنا، والألطف شخصية، وعرف عنه إرضاء الجميع. وقام «رالف» بتوزيع المهام بين رفاقه، حيث خصص فريقا لإشعال النار كي تراها السفن المارة في المنطقة، وكلف صديقه «جاك» بقيادة فريق آخر للعثور على الطعام وصيد الحيوانات، حيث اكتشفوا وجود الخنازير البرية في الجزيرة. وكانت عملية إشعال النار سهلة، حيث استعملوا نظارات «بيغي» عدسة لتركيز أشعة الشمس على الأغصان اليابسة، ولكن الفتيان اهتموا باللعب أكثر من اهتمامهم بمراقبة النار، فامتدت النار إلى غابة الجزيرة ما أدى إلى اندلاع حريق كبير في جزء منها. وبعد انطفاء النيران اكتشف الجميع اختفاء أحد الفتيان الأصغر سنا، فاعتقدوا أنه توفي جراء النيران. كانت الحياة في الجزيرة في بداية الأمر جميلة، حيث استمتع الفتيان بحريتهم المطلقة واللعب. وعلى الرغم من محاولات «رالف» حثهم على بناء أكواخ بسيطة ومراقبة النار، وجعلوا هذا من مهام فريق الصيد الذي فشل في محاولاته للصيد، على الرغم من اندفاع وحماس قائده «جاك» . وفي أحد الأيام يلاحظ «رالف» و«بيغي» سفينة في الأفق، ولكنهما اكتشفا ايضا انطفاء النار، فهرعا باتجاه النار المخمدة لإشعالها مرة أخرى بدون جدوى، إذ ضاعت الفرصة وابتعدت السفينة. ويتوجه الاثنان نحو فريق الصيد غاضبين، ويلتقيان بالفريق أثناء عودته، وأفراده منغمسون في نشوة غريبة، حيث أنهم كانوا يحملون خنزيرا ميتا قد قتلوه لتوهم، وقد غطتهم الدماء وصبغوا وجوههم بألوان غريبة. وانغمس الصيادون الصغار في احتفال صاخب شمل رقصات وتمثيل مطاردة ذلك الخنزير المسكين. ويوبخ الاثنان «جاك» لإهماله النار، وسرعان ما تتصاعد حدة هذه المواجهة ويقوم «جاك» بضرب «بيغي». ولذلك ينفخ «رالف» في القوقعة الصدفية لدعوة الجميع للتجمع، وإعادة النظام بينهم. وأخذ «رالف» يلاحظ أن الفتيان الأصغر سنا، أخذوا يشعرون بالخوف، نظرا لانتشار اعتقاد بينهم بوجود وحش مرعب في الجزيرة، وأنه يختبأ في البحر نهارا، بينما يخرج ليلا ويتجول في الجزيرة. تنشب معركة جوية بين طائرات حربية في منطقة الجزيرة أثناء الليل، بدون أن يلاحظ الفتيان النائمون شيئا، ومنهم اللذان وقعت على عاتقهما مسؤولية إبقاء النار مشتعلة. ويستيقظ الاثنان ليشاهدوا شيئا يطير فوق الجزيرة، فاعتقدوا أنه الوحش، وأيقظا الآخرين ليخبرانهم بأنهما هوجما من قبل الوحش. ولم يكن ما شاهداه سوى احد الطيارين وهو يهبط بالمظلة على الجزيرة، ولكنه يتوفى أثناء هبوطه، ولذلك يقوم «رالف» و«جاك» بجولة في الجزيرة للعثور على ذلك الوحش المخيف، ويشاهدون من مسافة بعيدة الطيار الميت ومظلته، فيعتقدون انه قرد غريب الشكل، ويعودون إلى رفاقهم لإبلاغهم باكتشافهم. وتبدأ الخلافات بين «رالف» وجاك» بالظهور رويدا رويدا، حيث اتهم «جاك» صديقه السابق بالجبن، مطالبا تنحيته عن منصبه كزعيم، وبعد جدال بين الفتيان يكوّن «جاك» مجموعة خاصة به، ويكتشف «رالف» أن أغلبية الفتيان انضموا إلى غريمه، مكونين نوعا من القبيلة. ويعلن «جاك» نفسه زعيما للقبيلة وينظم حملة لصيد الخنازير. وعندما يصيدون خنزيرا ينظمون حفلا بشعا ويقطعون رأس الخنزير ويثبتونه على قضيب مسنن الطرف كقربان للوحش. ويتراكم الذباب على رأس الخنزير بشكل واضح تدريجيا، مثيرا اهتمام أحد الفتيان، الذي يقترب أثناء الليل من الرأس البشع المقطوع، ويتخيل الفتى أن الرأس يتكلم معه قائلا، إنه ملك الذباب، ولا سبيل للأطفال للفرار منه لأنه يكمن في كل البشر، فأغشي على الطفل على الفور. وعندما يستعيد الطفل وعيه يتجول في الجزيرة ويكتشف جثة الطيار، فتتملكه فكرة أن الوحش غير موجود في العالم الخارجي، بل في داخل كل من الفتيان، فيركض بسرعة إلى رفاقه الذين وجدهم في خضم احتفال مجنون، وقد انضم إليهم «رالف» و«بيغي». ولكنهم ما أن يروه راكضا نحوهم في الليل حتى يهجموا عليه ويقتلونه بقبضاتهم وأسنانهم. وفي اليوم التالي يندم «رالف» و«جاك» على ما فعلوه، ويقول الأول إن ما حدث لم يكن سوى حادث، ولكن الثاني يصر على أنه كان جريمة قتل. وينشب صراع بين رفاقهما القليلين ورفاق «جاك» يؤدي إلى مقتل «بيغي» وتحطيم القوقعة الصدفية، بل إن «رالف» نفسه بالكاد نجح في الهروب من رماح قبيلة «جاك»، ويختبئ في الغابة، وقد تحول الجميع إلى وحوش كاسرة لا تمت لعالم الطفولة بصلة. ويقوم «جاك» وقبيلته بحرق الغابة لإجبار «رالف» على الخروج من مخبئه، ولكن «رالف» ينجح في الهروب، ويحطم رأس «الخنزير»، وسرعان ما اكتشف أن لا مفر له سوى ساحل الجزيرة، فيتجه إلى هناك. وما أن يصل إلى الساحل حتى ينهار على الرمال منهكا وهوعلى يقين أن رفاق «جاك» قادمين لا محالة لقتله، وحاول النظر إلى الأعلى قليلا لمعرفة ما يحدث حوله، فاذا به يرى ضابطا في البحرية البريطانية واقفا أمامه، فقد لاحظ بحارة سفينة حربية بريطانية كانت مارة في المنطقة الحريق في غابة الجزيرة، فأتى الضابط للاستطلاع على حقيقة ما يجري. ووصل رفاق «جاك» للنيل من «رالف»، ولكنهم توقفوا فور رؤيتهم للضابط الذي سأل «رالف» عما يجري. لم تكن الرواية مأخوذة من حادثة حقيقية، بل خيالية تماما. ولذلك فإن أحداثها كانت من بنات أفكار مؤلفها، وعبّرت عن مشاعره ومفاهيمه. ولكن «رالف» لم يكن قادرا على الإجابة، إذ أنه لا يصدق أنه قد نجا، ويبكي. وسرعان ما يبكي رفاق «جاك» أيضا، ويبدو الجميع أطفالا مرة أخرى. ويقول الضابط البريطاني إنه توقع أن يكون تلاميذ بريطانيون مرموقون مثلهم أفضل من ذلك. وتنتهي هنا الرواية. آراء حول الرواية لم تكن الرواية مأخوذة من حادثة حقيقية، بل خيالية تماما. ولذلك فإن أحداثها كانت من بنات أفكار مؤلفها، وعبّرت عن مشاعره ومفاهيمه. وأثارت الرواية جدلا واسعا بين النقاد، فقد كان أبطالها من الفتيان، وكان هذا بسبب كون الفتيان أكثر ميلا للعنف الجسدي، ومحاولة من المؤلف للتعبير عن النفسية البشرية الخالصة، والبعيدة عن تقاليد المجتمع وقوانينه، والشرور المخفية في داخلها. وتعبر الرواية عن النفسية البشرية التي لا تميل إلى الفوضى والوحشية وحسب، بل كذلك إلى اتباع الشرير طالما كان قويا وقادرا على الأذى، وحتى إذا كان ذلك الأذى موجها ضد أحد الاتباع الأبرياء، فنجد في القصة «جاك» الذي يقول إنهم في حالة عدم العثور على الخنزير، فسيكون البديل قتل أحد الفتيان الصغار، ويضحك الجميع صغارا وكبارا. ولذلك فإن كون القائد طيبا وذكيا ودائم المحاولة لإرضاء الآخرين، لن يكفي لدرء خطر الأشرار. وتُظهر الرواية «رالف»، الذي يحاول مساعدة الجميع عن طريق تنظيم حياتهم وتوفير أكواخ لهم، ومحاولة لفت انتباه السفن المارة، ويتم انتخابه زعيما، ولكنه كان ضعيفا، ما سمح لـ«جاك» أن يتغلب عليه، ويقوم بانقلاب على النظام القائم، إلى درجة قتل «بيغي» ومحاولة قتل «رالف» نفسه، بموافقة الجميع الذين يشتركون في هذا العمل بكل حماس، ولذلك فإن المؤلف يبين أن على القائد الطيب القلب أن يكون قويا في مقاومة الأشرار، بكل ما أوتي به من قوة، وإلا فإن الشر سينتصر ويطاح به، ليلقى مصيره المشؤوم، فالناس يراهنون على الحصان الفائز، وليس على الخير والطيبة. ولحكاية الوحش في هذه الرواية أهمية خاصة، حيث نجدها تنتشر بين الفتيان الأصغر سنا في بادئ الأمر، ولكن «جاك» يستغلها لتخويف الجميع، وتحويل الأسطورة إلى حقيقة، لتوحيدهم تحت قيادته وتثبيت مركزه، بحجة النيل من هذا العدو الخفي، الذي يحوله إلى رمز يقدمون له قربانا، فهو قوة وهمية يخشونها ويبجلونها في الوقت نفسه. ومن أجل مكافحة هذا العدو الوهمي، تختفي الأخلاق والقوانين والأعراف، ويصبح كل شيء مباحا من أجل تحقيق الهدف الأسمى، ألا وهو القضاء على الوحش. وكلما زادت وحشية «جاك» وقابليته على السيطرة على الآخرين تخفت أصوات المعارضة، ويقلده الجميع إلى درجة المبالغة، وتبدأ سمات الطفولة والبراءة بالاختفاء سريعا. ولكن الطفولة تعود عند ظهور الضابط البحري، الذي جسد السلطة الجديدة التي طغت على سلطة «جاك»، فسرعان ما بكى أفراد قبيلة «جاك» للتظاهر بالبراءة وإعلان خضوعهم للنظام الجديد، بينما هم في الحقيقة قتلة. المؤلف وليام غولدنغ كان المؤلف نفسه يستحق كتابا يكتب خصيصا عنه، نظرا للاضطرابات النفسية التي كان يعاني منها مثل، الكآبة الحادة والإدمان على الكحول والشعور المفرط بالوحدة. وقد صرح بنفسه بأن الحاق الأذى بالآخرين كان من أسباب المتعة لديه، ولذلك كان كثير الاعتداء على أقرانه في المدرسة، كما أنه حاول اغتصاب فتاة عندما كان في الخامسة عشر من عمره. وبعد تخرجه من جامعة أوكسفورد، أصبح مديرا لمدرسة ومدرسا لمادة اللغة الإنكليزية وكان دائم المحاولة لإثارة المشاكل بين الطلبة. وما أن بدأت الحرب العالمية الثانية حتى تطوع في البحرية البريطانية، وعلى ما يبدو أنه استمتع في وقته في الحرب. وكان شديد القسوة في معاملته لابنه وابنته، حتى إنهما أصيبا بانهيار عصبي في ما بعد. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مؤلفاته تكشف عن جوانب خفية من شخصيته، فإنه من الممكن القول إن العديد من مشاكله النفسية وانحرافاته لم يكشف النقاب عنها بعد. ٭ باحث ومؤرخ من العراق
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق