الأحد، 18 أكتوبر 2020

زقاقيات دمشقية

على غير عادة سعاد جروس، التي تصب شغفها الآن على متابعة ما يجري في بلادها من تحولات وتطورات جمّة سواء في مدينتها حمص أو في بلدها الثاني دمشق وتالياً سوريا. سعاد عودتنا أن تكتب الشعر، وتسطر الكلمات من العسل، وتطيب خاطرنا وخاطرها بحلو الحب والشوق، سواء عبر تناولها لمقالها الصحافي أو في طراطيشها الفايسبوكية حيث كانت كتاباتها مليئة بالعبارات المعسولة بروح الفكاهة وعبق الحياة. حوّلت جروس هوامش الأشياء الضائعة بين العناوين العريضة إلى عبرِ في سياقات مهمة، بحيث تصبح أهم من المتن ذاته، وفي زحمة مقالات وتحليلات أصدرت جروس كتابها « زقاقيات دمشقيّة»(دار رياض الريس - بيروت - تموز 2011) …ولكنها على الرغم من ذلك لم تبتعد كثيراً عن سياق المفاهيم والتطورات الجارية في سوريا وعاصمتها دمشق. وتقول جروس عن كتابها انه «جولة صحافية في أزقة دمشق وفضاءاتها، لكنه أيضاً جزء من حياتي، إذ تشوبه شبهة شخصية لا أنكرها، فلا غرابة أن يجذبني الماضي تارة فأتورط في الحنين، وتارة أخرى تأخذني حيوية الحاضر فأغرق في تفاصيل التحولات المستمرة»، فيما يرى الروائي السوري الشهير فواز حداد في مقدمته للكتاب أن جروس كتبت «عن دمشق على طريقتها، كما هي موجودة على الأرض يختلط فيها الماضي بالحاضر، فالتاريخ في جنباتها تسللت إليه الحداثة مصحوبة بأحياء عشوائية، فكان كتابها نفحة من هنا ونفحة من هناك، تأخذنا إلى الأسواق، وتتحول بنا في الشوارع، وتزيح دخان النراجيل عن المقاهي، وتتعبد في المساجد والكنائس، وتغوص في المهن والحرف السورية، وتتبضع الأغبائي، ونتذوق معها الطبيخ الشامي في السيارين على ضفة بردى، ونتسمع معها إلى نداءات الباعة الجوالين، تخالط المسلمين والمسيحيين في طقوسهم، ولا تنسى يهود دمشق قبل أن يرحلوا وما تركوه خلفهم بعد الرحيل». المدينة المثقلة للوهلة الأولى وأنت تتصفح الكتاب، تجد ريح الحداثة عبر مقاربتها للتحولات التي جرت على هذه المدينة المثقلة بريح التاريخ وأبوابها التي أغلقت أمام الانفتاحات كافة عدا الانفتاح الاقتصادي، وما ان تصل إلى الصفحة التاسعة عشرة حتى تبدو لك كيف أنّ جروس ترصد التحولات التي طرأت على دمشق، ففي هذه الصفحة تجد صورة البانوراما الحديثة وأسواق دمشق في 2011 وفي الصفحة التي تليها تلمح صورة للمرجة في 1912 وتليها مباشرة ساحة المرجة في 2011 وما أن تدقق في صورة السجن في ساحة المرجة عام 1894 حتى تسترق انتباهك صورة أخرى لفندق الفور سيزن وفندق الشام في 2011 هذا فضلاً عن صورة لدمشق ليلاً في 2011 وحارة الشيخ محي الدين بن عربي القديمة. في أوراقها الأولى تقف جروس عند غرائب وطرائف وأسماء أماكن دمشقية. تقول جروس:« في دمشق، ما اسم المكان سوى تكثيف لماهيته، ومسوغ للدخول في عالم اشتقاق وتاريخ وتسميات وألقاب. وهو سفر في عالم غني متخم بالحكايات الطريفة والتخيلات المثيرة، وهذا ما يمنح دمشق خصوصية روحية وإنسانية». المدن كالأشخاص فيها التخيلي والمفتعل وفيها الحقيقي والزائف. دمشق كالقاهرة ومراكش والقدس.. مدن حقيقية تنبع حقيقتها من خصوصيتها شديدة التنوع، ومن حدة تناقض هذا التنوع. حسب ما تقول جروس. وتحكي جروس مطولاً عن أساطير في رحاب الشيخ محيي الدين، وكيف أنّ أيام الجمع لها خصوصيتها في هذا المكان حيث تبلغ الحركة أوجها في النصف الأول من النهار، بينما تخلد لسكون حلمي في النصف الآخر، بعد اختفاء شلالات البضائع، وغياب أي أثر للسوق سوى النفايات والأكياس الفارغة، وشخوص يعبرون بصمت كالأشباح لا يتعدى عددهم أصابع اليدين، يهيمون في رخاوة الهدوء. حارة اليهود مشاهد تتراكم في الذاكرة اليومية لرسم منظر حلمي، حيث كل التفاصيل توحي بالخرافة. تقول جروس: «حتى شخوصها تبدو كحكايات تتحلق وتدور في حضرة الشيخ فيحدث مثلاً أن يكون صاحب بسطة، حاصل على ماجستير بعلم الآثار ودبلوم في التربية وآخر بالشرق القديم… ويعتقد أنّ باب رزقه لا ينفتح إلا جانب الجامع، قريباً من بركات الشيخ رغماً عن القانون، وملاحقات رجال البلدية، مع أن الإيمان ببركة الشيخ للرزق قد لا يمنع بائع البسطة المتعلم من التشكيك في صحة الروايات الشعبية المتداولة عن معجزاته، رغم المغالطات التاريخية». وتحت عنوان»حارة اليهود.. أبواب موصدة» تقول جروس إنه على خريطة مدينة دمشق يتمدد طريق عريض بين منطقة ابن عساكر وسوق الخضار الشعبية في ساحة الأمين، يصب فيها الشارع الرئيسي حيث يتفرع إلى أزقة متشعبة، تشكل بتداخلاتها الدهليزية ما كان يعرف بحارة» اليهود» ثم غدا حي الأمين - نسبة إلى السيد محسن الأمين. هناك تقع مدرسة (الإليانس) إحدى أشهر مدارس اليهود. على الورق نتتبع متاهات حارات اليهود المتداخلة، التي اشتهرت باسم محلة «الخراب»، بينما على الأرض، نلج عالماً من الإشكاليات والأحداث المشوّقة والقصص الطريفة التي لا تزال أصداؤها تتردد في فضاءاتها: بيوت مهجورة، محال أبوابها موصدة، أكوام من الأتربة والغبار وراء نوافذ تتحدى الغبش بقايا من تاريخ يومي ترويه الذاكرة الشعبية عن السكان اليهود: اللحام مراد، المبصر أبو خضر، الصيرفي رمانو، الخياط شعيا، المغنيات الجميلات بنات شطاح، حسيبة اتشي، هانولا، الطبيب طوطح، والصيدلاني إبراهيم… وتجار الأقمشة وحرفي النحاسيات في باب توما، قصص أناس كانوا هنا ورحلوا. عرفت الحارة في الماضي مركزاً لتجمع اليهود في دمشق، مثلما عرفت باب توما والقصاع مركزاً لتجمع المسيحيين. تضم حارة اليهود نحو 22 كنيساً، لم يعد يفتح منها إلا ثلاثة، بعدما هاجر أغلبية اليهود ولم يبق منهم سوى خمسين شخصاً، لذا يضطر المصلون اليهود إلى التوزع على جميع الكنس، فمن شروط صلاة الجماعة وجود عشرة أشخاص على الأقل في الكنيس الواحد. بقي القول إنّ جروس رصدت مدينة دمشق على واقعها وتحوّل أسواقها وأنماطها المعيشيّة إلى مولات وأسواق جديدة بنيّت على ركام مؤسسات حكومية غرقت في عالم المحسوبيات والفساد .استطاعت عين سعاد أن تلتقط بعض هذه التفاصيل التحوّلية التي صبغت دمشق بهويّة حداثوية على الرغم من مقاومتها للعولمة الفكريّة، والتواصل العالميّ. عن جريدة السفير البيروتية 20/9/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق