الخميس، 29 أكتوبر 2020
تلخيص السياسة
خدمة لتراث ابن رشد السياسي والأخلاقي والاجتماعي، ولإماطة اللثام عنه، آثر المترجم، ولأسباب عدة نقل هذا الكتاب الموسوم بـ"تلخيص السياسة لأفلاطون" إلى العربية، حيث تشير المصادر العربية القديمة، فضلاً عن الحديثة منها، إلى أن ابن رشد قد وضع تلخيصاً لكتاب السياسة لأفلاطون، وتلخيصاً لكتاب الأخلاق النيقوماخية لأرسطو، ووضعه بين أيدي الدارسين لفلسفة هذا الفيلسوف الكبير والمهتمين بفلسفة القرون الوسطى العربية منها وغير العربية، كما أشار إلى ذلك بحق ارفن روزنتال في ترجمة الكتاب، ولربط التراث السياسي والأخلاقي للأمة ببعضه البعض حتى تستكمل الصورة تماماً وتكون الأحكام حوله صحيحة وليست افتراضية أو جزافية. ولهذا وبعد أن حُرّر أصله العبري إلى الإنكليزية من قبل أكثر من مستعرب، وأولهم ارفن ورزنتال، إذ صدرت نشرته عن مطابع جامعة كمبردج بطبعته الأولى عام 1956، حيث أن الأصل العبري كان قد نقله من العربية المترجم العبري شموئيل بن يهودا من مرسيليا، أما الترجمة اللاتينية له فقد قام بها الطيب العبري يعقوب بن مانتينبوس الطرطوشي، كما أشار إلى ذلك بالتفصيل ارفن ورزنتال في مقدمته لهذا الكتاب. فيما النشرة الثانية قام بها المستعرب رالف ليونر وصدرت عن مطابع كورنيل عام 1974. من هنا، فقد تمّ العزم على نقل النص إلى العربية لإعادته إلى أصله الذي وضع فيه أول مرة. والكتاب هو من الكتب المؤكدة نسبتها إلى ابن رشد، حيث أنه لا يوجد هناك من يشكك في هذه النسبة سواء من القدامة أم المحدثين، إلا أنه قام بينهم تنازع في تسمية هذا الكتاب: هل هو جوامع لسياسة أفلاطون، أم أنه تلخيص لسياسة أفلاطون؟ والرأي أن كتاب ابن رشد هذا هو إلى التلخيص أقرب منه بالعنوان إلى الجوامع، وإن كان ابن رشد يشير في أول كلامه في مقدمة هذا الكتاب إلى أنه يريد جرد الأقاويل العلمية فيه، وهي سنته التي درج عليها عند كلامه في تآليفه المسماة بالجوامع؛ ولا سيما جوامع العلم الطبيعي، ولكن هذا القول سرعان ما يغادره ابن رشد أثناء تلخيصه لسياسة أفلاطون، وذلك حينما يستعمل عبارة "قال أفلاطون"، أو "قال..." ويورد قولاً لأفلاطون ثم بعدها تتداخل أقوال هذا مع ذاك بحيث لا يمكن التمييز بين ما هو لكل منها، حيث يستطرد كثيراً في مناقشة قضايا تهمّ العلم الطبيعي والأخلاق والتاريخ والعادات والشيم والجغرافيا وغيرها. ويلاحظ في تلخيص ابن رشد هذا، تداخل أقوال أفلاطون في كتابه السياسة (=الجمهورية) مع كتاب أرسطو في الأخلاق النيقوماخية، وكأنه يكيف أفلاطون لأرسطو، أو أرسطو لأفلاطون، أو يكيف كليهما للإسلام والشريعة الإسلامية، كما ويستطرد كثيراً في ذكر أحداث تاريخية مهمة حول تاريخ وشكل النظام السياسي في الدولة العربية الإسلامية سواء في عصورها الأولى وحتى عصر المرابطين والموحدين في زمانه، مقارناً ذلك كله بما حدث في أمم أخرى كاليونان والفرس، مما يقوي الاعتقاد بأن هذا الكتاب هو بمثابة تلخيص لجمهورية أفلاطون، وليس بجوامع لها. وفضلاً عن ذلك، فإن مقدمة روزنتال تشير إلى أن المترجم العبري لهذا الكتاب يذكر أنه قد ترجم هذا الكتاب من شرح ابن رشد لكتاب "الأخلاق النيقوماخية"، وأنه قد راجع الترجمة مرتين. وهذا القول يعززه ما ذكره ابن رشد في مقدمة كتابه تلخيص السياسة لأفلاطون، من أنه يشكل الجزء الثاني من العلم العملي السياسي بعد أن شكل شرحه أو تلخيصه لكتاب الأخلاق النيقوماخية جزئه الأول، باعتباره الجانب النظري من العلم العملي بينما السياسة تمثل الجانب التطبيقي. ومن زاوية أخرى فهناك إشارات إلى أن لهذا الكتاب علاقة رئيسية مباشرة بنكبة ابن رشد، وهو أمر غير مستبعد، حيث أنه كثيراً ما كان ابن رشد يورد أقوالاً حول شكل النظام السياسي المضاد للمدينة الفاضلة، ولا سيما النظام الاستبدادي أو النظام القائم على الجاه والشرف والمجد، أو ما يجمع بين النظام القائم على الجاه والنظام القائم على الثراء والمال، ويشير إلى أن هذه الأنظمة موجودة في زمانه وبلاده الأندلس. وفضلاً عن ذلك، فإنه يورد آراء جبال دولة المرابطين ثم دولة الموحدين التي قامت على أنقاضها، وكيف سقطت دولة المرابطين وأسباب ذلك هو ابتعادها عن دولة الشرع التي بنظره تساوي المدينة الفاضلة، حيث تحولت بعد 20 سنة إلى دولة المال، ثم بعد 20 سنة أخرى تحولت ومع حفيد يوسف تاشفين، مؤسس الدولة المرابطية، إلى مدينة قائمة على الاستبداد. ويقول ابن رشد بأن فنائها هو وجود نظام وحركة سياسية مضادة لها قائمة على الشريعة، وهو إنما قصد بذلك دولة الموحدين ومؤسسها المهدي بن تومرت، وقائد جناحها العسكري عبد المؤمن، ثم يصف بعد ذلك ما جرى في أول قيام دولة الموحدين القائمة في أول أمرها على الشريعة الإسلامية. والشرع هنا وبنظر ابن رشد في هذا الكتاب يعادل المدينة الفاضلة، إلا أنه بعد أن تحولت إلى مدينة الشرف والجاه فإلى مدينة الاستبداد آخر الأمر، وهو ما يشير إليه على أنه موجود في زمانه وبلاده. ثم إن ابن رشد يفصح بوضوح عن سبب تحول المدينة في الإسلام من العدالة والفضيلة (=المدينة الفاضلة) زمن الخلفاء الراشدين إلى مدينة الوجاهة والشرف مع معاوية، معتقداً أنه إنما يوجّه بذلك انتقاداً مباشراً للدولة والنظام اللذين أنشأهما معاوية، بحيث يمكن تطبيقه على أية ناحية من نواحي التاريخ الإسلامي في زمانه. كما ويفهم من كلامه أن سبب التحول والتبدل في المدينة من شكل إلى آخر إنما يقف وراءه معاوية.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق