السبت، 4 يناير 2020

صيد العصاري

تعددت زياراتى للعيادة . لا لمرض ، ولا حتى للقاء الدكتور جارو ، وإنما لرؤية نورا . الجلوس إليها ، ومناقشتها . يغيب الموضوع المحدد ، القضية المحددة . مجرد أن أجلس إليها . أتأمل الوجه الطفولى ، والبشرة الناعمة ، والعينين الزرقاوين ، الواسعتين ، اجتذبتنى بما لم أستطع تحديده . شعور غامض أخفقت فى تفسيره ، وإن سيطر على بما يصعب مغالبته . تختلط فى ذهنى بأفكار غير محددة ، بما يشبه التصورات أو الأحلام . ورابت باباً توقعت وراءه ما هو أشد جمالاً من السحر .. حاولت أن أتماسك ، فلا أفضح مشاعرى نحوها . أخشى أن يفطن العجوز ، أو تزجرنى . ربما لا أدخل العيادة ثانية .. أجلس فى الصالة .. المينا الشرقية ـ من ورائى ـ فى مدى الأفق . عيناى مسمرتان على باب العيادة الموارب . أتوقع ، أنتظر ، قدومها . تطالعنى بقامتها الطويلة ، والشعر المنسدل ، والأنف الدقيق ، والشفتين كورقتى وردة ، والشامة الصغيرة أسفل ذقنها ، والغمازتين المبتسمتين مع ابتسامتها الدائمة .. أتجاهل نظرة الدكتور جارو ، تأخذنى اللهفة من ثرثرته ـ هى فى لحظات الانتظار مجرد ثرثرة ـ بوقع أقدام على السلم . أنسى حتى وجود العجوز . حتى هزة الرأس دلالة المتابعة ، أنساها . تدعونى بابتسامتها المرحبة ، ويظل الدكتور جارو على صمته . أقترب منه ، وإن لم أجلس على أحد الكراسى المصفوفة أمامه . أتعمد أن تكون جلستى بحيث ترانى إذا تحدثت معه . لم أستطع أن أتبين الجدار غير المرئى الذى يفصل بيننا ، ويحول دون أن أعترف لها بمشاعرى . أدركت أنى فى حاجة إلى جرأة ، لا أمتلكها .. انطبع ـ فى ذاكرتى ـ امتداد البنايات من زاوية الحجرة إلى المينا الشرقية : الشرفات ، مناشر الغسيل ، النوافذ ، الوجوه المطلة ، المناور الفاصلة ، الأفاريز ، المقرنصات ، أسلاك التليفون ، لافتات العيادات ومكاتب المحامين ، النشع المتناثر فى الواجهات .. لاحظت حرصها على تحاشى النظر ناحية عينى اللتين تمتلئان من قسماتها ، وتحملان مشاعرى . شغلنى الإفصاح ـ أو حتى التلميح ـ بمشاعرى نحوها . حاولت أن أنبهها كى تلتفت نحوى بعينيها الواسعتين . أتأمل بحرهما الصافى الزرقة وأنا أتكلم . أسأل ، وأجيب ، وأناقش ، وأبدى الملاحظات . تفاجئنى بنظرة وأنا أتأمل ملامحها . أغالب الارتباك . أتظاهر بالشرود ، أو بالنظر إلى شىء غير محدد .. رددت نفسى عن محاولة مد أصابعى ولمس يدها المسترخية على الطاولة . أتمنى لو أنى وضعت يدى على بشرتها الناعمة ، لو أنى تحسستها . أدرك الحاجز غير المرئى الذى حرصت على أن تضعه بيننا . كان العجوز ـ إذا تحدثت ـ يتظاهر بمتابعتى . يهز رأسه دلالة المتابعة بالفعل ، لكن عينيه كانتا دائمتى الالتفات نحو الفتاة . وكانت ـ إذا جاءت سيرتها فى كلام بينى وبينه ـ داخل نبرة صوته تهدج ، وغلبه الانفعال .. لم أجد فى نظرات الطبيب المتسللة إليها ما يمنعنى من إهمال نمو الإحساس بالحياة فى داخلى . إذا كان يحبها ، فهو لا يملك الإطار الذى يضع فيه حبه . لا رفقة ، ولا زواج ، ولا حتى علاقة عابرة .. قال لى وهو يطل على صيادى المياس فى المينا الشرقية : ـ الشاب لا يحتاج إلا إلى امرأة ليفرغ شهوته .. ثم وهو يتأمل البقع البنية المتناثرة فى ظهر يده : ـ أما من هم فى مثل سنى فإن طقوس ما قبل العلاقة تأخذ أضعاف الوقت الذى تأخذه العلاقة نفسها .. ورفع رأسه ببطء : ـ كنت أعانى مرضاً وحيداً هو الحنين إلى الوطن . تتقاسم حياتى الآن أمراض أخرى فرضتها الشيخوخة ! لم تكن تضايقه المداعبات . يفهم الدعابة ، ويستجيب لها . يرد عليها ببديهة حاضرة ، يظهر حزناً صامتاً إذا لامست الدعابة حياته الخاصة . يحيط نفسه بسور غير مرئى يصعب اختراقه . لا أستطيع أن أتعرف فى عينيه إلى شىء يخفيه ، ولا أن أقرأ مشاعره ، وإن أدركت أن وراء الشخصية الغامضة ، مخلوق عاطفى ، وطيب القلب . *** استأذنته فى أن يعيد ما رواه فى الجلسة السابقة . تبينت ـ حين بدأت فى إفراغ الشريط ـ أنها نسيت تشغيل جهاز الكاسيت .. وضع فى راحة يده حبتين من علبة الدواء البيضاء المستديرة . ثم دفعهما فى فمه ، وأتبعهما بجرعة ماء : ـ الخوف ـ وحده ـ هو الذى منعنى من العودة إلى أرمينية بعد قيام الجمهورية الأولى فى 28 مايو 1918 . اقتصرت التسمية على العاصمة يريفان والقرى المحيطة . توقعت أن يكون للأحداث امتداداتها . لكن أرمينية ظلت هناك . أحيا بتوقع العودة إليها . أنت تجدين فى أسرتك ، عائلتك ، حائط الاطمئنان ، وأن العودة إليها متاحة وممكنة . يختلف الأمر لو أن الوطن غائب ، والعائلة ، الأسرة ، لا يدرى المرء أين تحيا ، إن كانت على قيد الحياة ، ولا يدرى كيف يصل إليها .. وتعكرت ملامح وجهه : ـ ظلت فى ذاكرتى جثث القتلى الطافية فوق مياه الفرات . اقتحم داخلى ربما بما هو أكبر من الخوف . أتصور نفسى فى الأجساد المنتفخة ، المشوهة الملامح .. تدخلت بالقول : ـ هل ظللت خائفاً كل تلك السنوات ؟ قال : ـ تحولت الجمهورية الأرمينية الأولى إلى الشيوعية . انضمت إلى الاتحاد السوفيتى . صادرت السياسة حقوق الأرمن عشرات السنين .. ـ أعرف أن الآلاف عادوا فيما بعد .. ـ هذا صحيح .. لما أقام الاتحاد السوفيتى علاقاته الديبلوماسية مع البلاد العربية ، فتح أبوابه لمن يرغبون من الأرمن فى العودة إلى وطنهم الأول .. عاد حوالى خمسة آلاف .. لم أكن منهم . ـ لماذا ؟ ـ صارت مجرد إقليم فى دولة شيوعية .. احتلال مختلف .. قلت : ـ أثق أن الطائرات غيرت فكرة الإنسان عن الوطن .. أردفت لنظرته المندهشة : ـ لم نعد نحتاج إلى الأوقات الطويلة للانتقال بين بلد وآخر .. وربت يدى على كتفه : ـ العالم كله فى المستقبل هو وطن الإنسان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق