الثلاثاء، 14 يناير 2020
صخور السماء
ما برحت وقائع التاريخ القبطي تشغل بعض الروائيين والنقاد المصريين نظراً الى ما يتضمن هذا التاريخ من قضايا واشكالات مثيرة. واذ اعلن عن صدور وشيك لكتاب عن "اقباط" نجيب محفوظ، أصدر الروائي ادوار الخرّاط رواية "صخور السماء" وهي بمثابة ملحمة قبطية تاريخية تحفل بالكثير من الشخصيات والوقائع وتسلّط الضوء على حقبة مميزة من التاريخ المصري. وكان من المقرر ان تصدر الرواية عن دار الآداب في بيروت لكن الدار اعتذرت عن نشرها تبعاً لجرأتها وغوصها على التاريخ القبطي. > أصبح إدوار الخراط ظاهرة فذة مثيرة للدهشة والتأمل في الأدب العربي. فهو كان يشارف في الثمانينات الستين من عمره ولم يكن نشر سوى رواية واحدة ومجموعتين قصصيتين. بينما كان أنجز عدداً ضخماً من الترجمات الفكرية والأدبية تبلغ زهاء أربعين كتاباً. ثم لم يلبث في هذه السنوات الأخيرة تحديداً أن يصدر أكثر من عشرين رواية وست دواوين شعرية... انها خصوبة متدفقة انهمرت في الشيخوخة كما لم يحدث لكاتب عربي معاصر من قبل. وقد صدرت عنه حتى الآن خمسة كتب نقدية، وترجم الكثير من ابداعاته الى مختلف اللغات الحية، وقدمت عنه في العربية والجامعات الاجنبية قرابة ثلاث عشرة رسالة جامعية. ولم يكن نيله جائزة الدولة التقديرية في الآداب العام الماضي عن خمس وسبعين سنة سوى اعتراف لاهث بما أنجزه في الإبداع والثقافة، وبموقعه كأحد مؤسسي الحداثة والحساسية الجديدة - عبر النوعية بحسب مصطلحه - في السرد العربي المحدث. طلع ادوار الخرّاط علينا في هذا الربيع بواحدة من أعتى رواياته وأشدها إشكالية وثراء هي "صخور السماء" مركز الحضارة العربية، القاهرة 2001 التي تناهز صفحاتها قرابة الخمسمئة، في نفس ملحمي مكثف. فهي تضم - بحسب القائمة البيوغرافية الملحقة بها مثل الأعمال الكلاسيكية الرصينة - خمساً وعشرين شخصية رئيسية، وخمساً وخمسين شخصية ثانوية، وخمساً وثلاثين ولداً وبنتاً، اضافة الى ثمانية عشر راهباً في مختلف الدرجات الكنسية. ويتقمص شخصية الراوي، الحالم أبداً كما يصفه فتى في الخامسة عشرة سنة، فنلاحظ أن معظم الأحداث تدور حول عام 1941، وهو الذي أكمل فيه المؤلف بالضبط هذا العمر. وعلى رغم أنه ينفي في الملحق وعلى غلاف الرواية أي طابع قبطي أو صعيدي للرواية، ويؤكد أنها ليست سيرة ذاتية، وليس لأحداثها أدنى صلة بالواقع، فإنها من المنظور النقدي تتضمن سيرة روحه وخلاصه مقطرة لرؤيته، وتحتوي أبرز ايقاعات وجوده الفردي - الجماعي، فهو أحد هؤلاء الأدباء الذين يكتبون ابرز ايقاعات وجوده الفردي - الجماعي، وهو أحد هؤلاء الأدباء الذين يكتبون دائماً "ذواكرهم" وسيرهم بأشكال متفاوتة، وتضج في أعمالهم ذواتهم المتعددة، ولا يعرفون بعمق سوى شخوصهم التي ترصد بحدقتها كل شيء وتضع له مثقاله الفكري والجمالي. فهو من هذه الوجهة غنائي في شعريته، يحيل الواحد الى كل ولكن من دون ان يجسد الكل في واحد. أسطرة الواقع يغرف ادوار الخراط في هذه الرواية من بئر الطفولة العميقة بما تختزنه من ذكريات حادة ثاقبة - على حد تعبيره المفصل - تنبثق من حياته الشخصية ووعيه الجماعي معاً. فالمشاهد المنظورة تتراءى في غور الصعيد، في سماء خميم الشهيرة بأنوال الحرير الطبيعي في منتصف القرن، حيث كان يتم تقطير الماء في "الزير" بنوى المشمش، ويصرخ الصقر في السماء لدرء الثعابين عن أهلها الوادعين. يحكي الراوي "كنا كلما لبسنا حذاء او جلسنا على الكرسي، أو تمددنا على سرير، ننظر أولاً بحرص، وننفض البنطلون أو "الجلابية" بقوة ونستوثق تماماً من أن الفراش بريء من العقارب المستكفّة في الثنايا. كانت حنينة في كل مرة توقد الفرن تنطلق عقرب أو أكثر من قرص الفرن الناعم الصلب، لكنها بعد أن تضربه تمسح القرص الذي بدأ يدفأ بخرقة نظيفة مندّاة بقليل من الماء مسحاً وثيقاً وهي تتمتم "باسم الصليب وشارة الصليب". واذا كانت رموز العقارب وشارات إبطال سمها تنتمي للذاكرة الجماعية لأهل الصعيد غالباً، فإن في هذه الذكريات ما لا ينفذ إلا من ثقوب الذواكر الفردية مثلما يصف الراوي في هذا المشهد ذاته، أنّ الصبي بتحريض من رفيقته وشيطانته الصغيرة، كانا يلتقطان حبة نواة المشمش من قعر القصعة الموضوعة تحت الزير ويحكان قمة النواة بالحائط حتى تتآكل ويظهر فيها قلب صغير جداً، ويخرجان بسن دبوس انكليزي فتاتاً من قلبها المر العذب معاً، حتى اذا فرغ القلب تماماً دفعا بالهواء الى داخله، هي أولاً ثم هو بالدور، فتعطي النواة صفيراً حاداً ثاقباً، كأنه استجابة لصرخة "الصقر الحارس المحوم في عين الشمس". ولأن هذه الخبرة الصبيانية الحميمة مما يتميز به أبناء القرى في الجيل الماضي فإن انبثاقها وتجسيدها مع امثالها - في ذاكرة الراوي المشبعة بالأحداث والتفاصيل والذكريات والمعلومات يمثلان تحدياً صارخاً لقوانين النسيان الطبيعي، وانبعاثاً حياً لمذاق الوجود الحريف في قاع الريف المصري، واقتداراً فائقاً على إعادة رسم وجه الحياة، كما كانت قبل أن تدخل المياه المقطرة البيوت الريفية، وقبل أن تستهلك أجهزة الإعلام وعي الناس وتغيم في ذاكراتهم تلك الرموز التي حافظت على هويتها وأنساق معانيها في العقل والوجدان. ولأنه يمتاح من هذا المعين الثر المكتوم، مسقطاً عليه شذرات صلبة من مداخلاته التأملية فإنه يعمد الى كشف بواطن الحياة القبطية في مصر على مستوى الأسطورة والطقس من جانب، وفي نسيج اللغة العربية الركيكة المرقعة من جانب آخر، مزيحاً عن وعيه - ما أمكنه - التاريخ الثقافي للفصحى وعالمها المختلف. فيأخذ في صوغ عدد من الرسائل المتبادلة بين أفراد العائلة باللهجة الدارجة، بعدما داعب النبرة الصعيدية في مقاطع طريفة متصلة. وتكتسب هذه العامية طابعاً اكليريكياً عندما يتم التقديس بها في جنبات الكنيسة وتتسع لحكاية المعجزات والتاريخ الشعبي للأبطال والقديسين. وتفيض الذواكر بكثير من هذه السير مثل قصة القديس "مرقص" وكيف ربطه الوثنيون بالحبال الى أربعة خيول تحمحم متوفزة للانطلاق، كل ذراع وكل ساق بحصان، وكيف تمزق جسده الطاهر أربعة أشلاء: "اضرموا النار أمام الكنيسة الصغيرة، هي في مكانها نفسه الآن يا ولاد، في شارع المسلة قسم العطارين اسمها الآن على اسمه "المرقسية" وراحوا يرقصون جذلاً وابتهاجاً سوف يحرقون اشلاء الجسد المقدس بالنار، ولكن عين يسوع ساهرة لا تنام، زلزلت الارض زلزالها، تمايلت الأبنية العالية والأعمدة والقصور المحيطة بالساحة". سوف يذكر بعد ذلك كيف تراقص الجبل وانخلع من جذوره وطار في الهواء ثم عاد الى قواعده. ثم يحكي قصة القبطان الروماني الذي تسلل الى الكنيسة في عهد عمرو بن العاص وسرق رأس القديس من التابوت، وحاول الابحار به فلم تتحرك السفينة لا بالشراع ولا بالمجاديف، واضطر اللص الى اعادة الرأس الى مكانه الأمين بعد أن ركع أمام البابا البطريرك واعترف بجرمه. "أما عمرو بن العاص فقد بجل البطريرك القبطي، وعظمه واعطاه عشرة آلاف دينار برسم بناء كنيسة عظيمة على اسم صاحب الرأس، فشكره البابا وبنى هذه الكنيسة. أما الأنبا ساويرس بن المقفع، أسقف الاشمونيين وملوي فقال في "تاريخ البطاركة" إن الدون سانوثيوس هو الذي أرسل للأنبا بنيامين مبلغاً من المال ليعيد بناء كنيسته". ليست التفاصيل شبه التاريخية وشبه الاسطورية، هي التي تهمنا في هذا السياق. فالرواية مفعمة بها، ولا يعنينا ما تتمتع به من حقائق أو تعتمد عليه من تخيل،. كما أننا لا نعطي أهمية توثيقية للرسائل المتتالية التي تطفر بها الرواية حتى النهاية، بلغتها الطريفة، وتفاصيلها الدقيقة، للايهام بأنها من بقايا أوراق عائلية محفوظة في صناديق متوارثة، وانما الذي يعنينا مدى تمثيلها روح العصر ونبرات الشخوص وأصواتهم ورؤاهم، على رغم الالتفاتات والتعليقات التي يتدخل بها الراوي في زمن الكتابة بلهجة شعرية مخالفة للسياق السابق. الأمر الذي يحقق ما كان يعتبره "باختين" لب العمل الروائي وهو الحوارية بين الأصوات والأوضاع واللهجات. هذه الحوارية اللازمة لتشكيل الوعي اللغوي وتحديد إيقاع الوجود ومذاقه المتميز. وأحسب أن بلاغة ادوار الخراط التي حققت في أعماله درجة رفيعة من الاتقان في تعبيرها الجزل وفصاحتها "المنفلوطية" - كما يلاحظ هو نفسه - قد أخذت منذ أعمال سابقة عدة على هذه الرواية في تجريب مستويات مخالفة من العامية وانخطافات مفاجئة تبدو كما لو كانت كسوراً لغوية مضاعفة ومقصودة. وهو الآن يوظف هذه التقنية في المفارقة اللغوية الحادة ليجسد بها روح الاختلاف، لا بين المثقفين والعامة، وانما بين أقباط مصر وبقية السكان، في نزوع متين لتركيز هويتهم وتكثيف وجودهم الأدبي وتثبيت أشد معالم خصوصيتهم الروحية واللسانية والأنثروبولوجية، لكنه يفعل ذلك باتساق بريء من التعصب، ونغم متوازن يعطي للآخر حقه، ويحافظ في المقام الأول على وحدة هذا النسيج المتآلف المتعايش بمحبة راسخة وتواصل إنساني عميق. فهو في اللحظة التي يعيد فيها "تخليق" الكيان الديني ورسم معالمه الأدبية والإنسانية بمهارة غير مسبوقة تحفر آبار الذاكرة الجماعية وينصب أشكالها ويتمثل دائماً نبل المقصد وآفاق الاندماج الحضاري العريق لإنسان متعدد الأبعاد والمستويات. يصف الراوي الأديب، بحس مأسوي فاجع، مصرع الزوجة الفاتنة سالومة في جمالها الخؤون وجلالها الطاغي، وتكتم الأقارب وطبيب المركز عن علاقات قتلها، واعتباره قضاءً وقدراً. ويصف وفاة راعيها الوفي الأنبا باخوميوس من قبل على مائدتها، ونزول الانبا المتشدد الجديد تاوضروس من الدير، وكيف أخذ يدب ببغلته في حارة القبة، وكيف حرنت فجأة وأخذت تنفث في منخريها وتحفر في أرض الحارة بأظلافها. رأسها يرتطم بحائط عالٍ يصعد فجأة الى عنان السماء، ليقوم سداً في وسط الحارة. رسم الانبا تاوضروس علامة الصليب ودار بالبغلة يريد الرجوع والخروج من أي عطفة جانبية، لكن رأسها أخذ يصطدم بالحائط نفسه الذي دار حول الانبا من الجوانب الاربعة. عرف رئيس الدير ان ملاك الشر يختبره، يوقعه في محنة ولعله يريد به شراً نهائياً: أن يتسلل الخوف الى قلبه ويحل محل الايمان. رسم الانبا علامة الصليب مرات أخرى، تجمعه فيه كل قوى العزم واليقين، على أتم الأهبة للقتال في سبيل إيمانه، سمع صوتاً أجش عالياً له صدى خبيث يتردد بين الحيطان الاربعة والسقف غير المرئي الذي يحسه يهبط عليه ببطء وتصميم: "أين إلهك الآن ليخلصك؟"، قال الأنبا: "نحن لا نعرف إلا اسمك القدوس، اجيوس اجيوس اجيوس، رب السماوات والارض، اقول له يا رب فلا يقوى عليّ صوت الخطيئة، تضرعي إليك وحدك يا رب وصلاتي فلا تطرحها، بل مد اليّ يدك القوية يا ملك الملوك ورب الأرباب". تصدعت الجدران الشيطانية عندئذ، فشد الأنبا لجام بغلته التي صمدت مع سيدها امام الشرير. وكان هذا الاختبار موضوع العظة في القداس الذي اقامه في العيشية على روح اخته الست سالومة في كنيسة "ابو سيفين". وتمثل الانبا تاوضروس بعد ذلك برسالة بولس الثانية الى أهل تسالونيكي، وآخر عبارة في الرسالة تقول "إذا كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً". ويعلق الراوي قائلاً: "اسرتني هذه الرسالة منذ تلك الفترة المبكرة، ومنها استقيت عقيدة لازمتني طويلاً وقاتلت في سبيلها. ولعلي ما زلت أؤمن بها. هكذا تتخلل أدبيات الكنيسة القبطية المكثفة، بمواعظها ورؤاها القديمة والمحدثة، بمعجزاتها وفواجعها، وصراحتها وهمسها، بعباراتها وطقوسها يتخلل كل ذلك خلايا هذا العمل الأدبي، في شكل لا نظير له، تعززه فصول خصصت كلها لتحليل إشكاليات معرفية لاهوتية، بما يجعلها ملحمة "إكليريكية" شامخة، لا بمعنى انها تقدم المنظور الديني في السرد، فهي تخضع هذا المنظور ذاته للنقد والمساءلة، وانما لأنها تبني متخيلها من ذرات الرماد التي تنتشر حول الأماكن الموصوفة بعشق عجيب، وايقاع الكلمات التي تتردد فيها أصداء الروح القبطي بكل هواجسها ومحفوظاتها، ولا يكاد الراوي الذي لا يلبث أن يمزق القناع مرات عدة ليطل وجه الكاتب نفسه يفزع من حكاية اسطورة حتى يشرع في أخرى، كلها مفعمة بالروح العجائبي في أخبار الكنيسة والقديسين، وكيف أنها خلت يوماً من المصلين وعمرتها الملائكة وأوقدت شموعها ورحبت بزوارها وطوبتهم، يضيف الراوي عقب ذلك تعليقاته: "هكذا تمضي حكايات فولكلور بلدنا - كأنه يصنع حرافيشه الموازية لملاحم محفوظ لماذا أنظر إليها من علِ؟ بل أنا خاشع أمامها حتى وإن كنت لا أعيرها لحظة واحدة صدقية بالمعنى المألوف، لها عندي صدقية على مستوى آخر غير مطروق غير عادي، لا استهين بها، ولا أنكر أن لها حقيقة أخرى تتجاوز حقائق كل يوم". هذا البعد الميتافزيقي المجاوز في تفسيره للمألوف يعني اسطرة العناصر الفولكلورية، وتحويل رمزيتها من دائرة الدين الى دائرة الأدب، من عقيدة الطائفة الى ضمير اللغة وروح الثقافة، لنلمح فيه الوجه المؤتلف في اختلافه مع الأدبيات الاسلامية التي لم تسرف في توظيف الموروث الديني في هذا الشكل في الأعمال الأدبية. ربما لأنها ليست مهددة بالضمور. لكن الموروثين يلتقيان في وحدة المتخيل والرمز والتأويل في القراءة النقدية المتمعنة. شعرية المناخ ومع أنه يمعن في توظيف عناصر شعرية السرد إذ يخايل مرات كثيرة لوناً آخر من شعرية القصيد في بعض أشكالها الطريفة كما تجلت في العصور المتأخرة، فهو يعمد الى تقطير الحزم الصوتية المشكلة من تجاور الحروف المتجانسة لتخليق لون من الهسيس الايقاعي الذي يبطن السرد بإطار موسيقي من بقايا غوايات السجع وبلاغات البديع. وذلك ما يقوله مثلاً وهو يتحدث عن النسر الذي هبط ليضرب بمنقاره المعقوف ظهر الذئب المطبق على جثة مهرة سالومة التي سبقت صاحبتها: "مخالب النسر ناشبة في اللحم المتلوي بكل شراسة التشبث بالحية، عيناه المشتعلتان مستغرقتان في متعة وحشية تنشق عنها شفرات شاردة مشدودة" الى آخر هذه الشينات المتوالية... أو السينات التي تترى في المشهد التالي: "جسدي ما زال مستشيطاً باستيهامات العاشق التي لا تنسكب من سواقي السماوات بل هي مسبوقة الى سعير ديونيزيوس، صخور السماء قداسات في صلبها دنس اصفى من السفاء. اشعار مسترسلة سنيورتي سلطانتي مسمسمة القسمات مسكونة بالسر من سلالة السيرينات". وكأن الكاتب يمارس لوناً من سحر الكلمات الذي عرفت به الاشعار في فترة الافراط البديعي، حتى لا يترك وسيلة لحشد أكبر شحنة من الطاقات الايحائية في مشاهده وأوصافه، بما يضيف الى تقنيات الرمز لديه هذا البعد الصوتي المتميز. عالم الصعيد لكن اللافت في هذه الرواية المثيرة هو ازدحامها بالاستطرادات والتأملات والشذرات المتناثرة. فإلى جانب عالم الراوي في الاربعينات في صعيد مصر وما يعتمل فيه من أوضاع اقتصادية واجتماعية لا يتسع المجال لتحليلها، يستغرق الكاتب في حكاية مطولة عن طقوس تنصيب اليعازر في سلك الرهبنة ليصبح أغابيوس، في محاولة اجتراح للمغامرة اللاهوتية في أعمق إشكالياتها وتفاصيلها. وهذا ما يقدم التجربة في بعدها الميتافيزيقي والسلوكي والمعرفي، لكنه لا يلبث أن يقفز في صفحات غير مبررة الى من يدعوه احمد ناجي الطيار الارستقراطي وحياته اللاهية في القاهرة، من دون أدنى علاقة بالسياق العام، اللهم الا بدعوى أن ابنته رامة وهي شخصية محورية في أعمال ادوار الخراط ورثت عنه بعض ملامحه. وينثر عدداً من الاشارات المبعثرة عن أوضاع شخصيات ومواقف في فترة الاربعينات ليست لها علاقة بالرواية. ثم يعود بإصرار الى لعبة الرسائل المتبادلة بين الأب قلدس أفندي مع أولاده واقربائه. وتنتظم بعض هذه الرسالة في أيام متتالية لا يسمح بها ما نعرفه عن حركة البريد في هذه الفترة، إذ يستغرق سفر الراوي من الاسكندرية الى أخميم يومين بينما تترى الرسائل في فترات شديدة التقارب. ولا يلبث الراوي أن يقص مغامرته في تحريض عمال إخميم على اقامة تنظيم نقابي لهم حتى لا تنقرض صناعة الحرير على الانوال اليدوية قبل أن يسهب في وصف بعض الفتن الطائفية بين الاقباط والمسلمين في ما يطلق عليه "أحداث أباهور" التي جرت في زمان بعيد. لكنه يتساءل عن هذا الزمان "هل مضى أم هو آت أم انها تحدث في كل زمان؟". واذا كانت فكرة التشتت والتشذر من مبادئ الحداثة السردية التي يدافع عنها الكاتب بإصرار، فإنها من الوجهة الجمالية تؤدي الى تضخيم الاعمال الأدبية بمزق من الحوادث والخواطر والاحالات والقفزات من دون نسق محدد، ما يصعّب من مجهود القراءة ويضعف الاحساس بالتناغم الحقيقي للنص الروائي. وأكثر من ذلك فإن كثيراً من هذه الفصول قابلة للاقتطاع والنشر المستقل باعتبارها مكتملة وقائمة بذاتها. وهذا على وجه التحديد ما فعله الكاتب عندما نشر قطعة من فصل "مولد العدرا" في "أهرام" الجـــمعة 6/4/2001 بعد نشر الرواية طبعاً، ما يتسق مع فكرة التداخل النوعي بين أشكال السرد المختلفة ويتجافى مع اعراف النشر. ومن الطريف ان الراوي يعترف بذلك ويناقشه متسائلاً: "هل هذه رواية؟ بالمعنى المألوف ربما نعم وربما لا". ويسرف الراوي على القارئ في تخصيص فصول كاملة لمناقشة مشكلات لاهوتية مكرورة عن العلاقة بين الناسوت واللاهوت في الثالوث المسيحي وموقف الكنيسة الارثوذكسية المصرية من ذلك منذ العصور القديمة. ولكي يخفف الراوي من تأثير هذا الحشو العقائدي يكرر انه "علماني أغنوصي حتى النخاع" مؤكداً: "لست ديّناً بالمعنى المألوف على الأقل، لكني مفتون بالمسيح، بأسطوريته الفائقة، برمزيته العميقة، بسر الألوهية في جسدانيته". وليست الرؤية الكلية لهذه الرواية سوى تجسيد لتلك الفتنة. وحتى تكتمل الدائرة المأسوية للرؤية اللاهوتية لا بد لقانون الثأر من أن يعصف بجسد الشخصية الأنثوية التالية "منّة" تحت تروس الطاحونة كما حدث بطريقة أخرى مع سالومة. ويدفع الراهب العاشق اغابيوس ثمن خطيئته بالحرمان والطرد والعودة الى اسمه القديم اليعازر من دون أدنى أمل في بعث جديد. اما الراوي الذي تكتمل مأساته بموت ابيه فإن الرؤى تغيم في وجهه وتختلط السيرة الذاتية عنده بالأشواق المضنية للمطلق حتى تتجسد في رمز أخير يتمثل في محطة قطار خاوية وإحساس مرهق يطارده ويمنعه من الوصول... ولعلها رحلة العمر التي تصورها هذه الملحمة العارمة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق