الاثنين، 6 يناير 2020

فنومينولوجيا الروح

من المعلوم أن الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل هو الذي وضع في كتابه: «فنومينولوجيا الروح» الأساس النظري لمفهوم الاعتراف، باعتباره محور الصراع بين الذوات، من خلال تحليله لجدلية الصراع بين العبد والسيد، وهي جدلية تأتي نتيجة حتمية لرغبة الإنسان في نزع الاعتراف به من طرف الغير، وهذا ما يجعل هذه الذات الراغبة تدخل في مغامرة التناحر حتى الموت. وعلى يد هذا الفيلسوف أصبح مفهوم الاعتراف من المفاهيم الرئيسة في الفكر الفلسفي المعاصر، خاصة بعد ظهور مدرسة فرانكفورت، التي قامت بإغناء هذا المفهوم عبر تحليلاتها المتميزة. تتخذ جوديت بيتلر في كتابها «الذات تصف نفسها» ترجمة فلاح رحيم من «فينومينولوجيا الروح» منطلقا لعرض أفكارها، إذ تعتبر هيغل في كتابه هذا ساردا يجند كل قواه لتبديد عتمة الذات، التي يمكن اعتبارها بطلة قصته الرئيسة، رفقة باقي الشخصيات التي يطلق عليها أسماء تتخذ لبوسا مفاهيميا مجردا مثل الرغبة، القوة، الوعي، الوعي الذاتي، الانعكاسية، السيد، العبد…، فالذات الهيغيلية حسب تعبير بيتلر قصة خيالية ذات قدرات لانهائية، مسافر رومانتيكي لا يتعلم إلا مما يجرب، وهو بحكم قدراته اللانهائية على ترميم نفسه لا يتحطم إلى حد يتعذر معه الإصلاح أبدا. ميل هيجل إلى توظيف الخيال القصصي راجع إلى رغباته الميتافيزيقية التي تردد على نفسها الأكاذيب لتضمن استمرارها في العيش، إن ما قام به هيغل شبيه بما قام به صاحب «الأوديسة»، وصاحب «الكوميديا الإلهية»، وصاحب «دون كيخوتة»، إذ يرسم ذاتا بهوية ميتافيزيقية بدون ملامح ولا آثار، ذاتا لا تني تركض وراء الواقع لكنها سرعان ما تسقط في الخطأ. يدشن هيغل سرد قصته في «فينومينولوجيا الروح» بالحديث عن مفهوم الرغبة، ويرى أنها ذات طابع مزدوج، فالرغبة غالبا ما تتجه نحو موضوع خارجي، لكنها انعكاسية في الآن نفسه، أي أنها تسعى من خلال هذا الخروج إلى العودة إلى نفسها وتدعيم معرفتها بطبيعتها ووسيلتها في ذلك هي القوة، وهنا بالضبط يتشكل بعدها الميتافيزيقي. ففي البداية تكون الرغبة حيوانية نظرا لالتصاقها الشديد بالطبيعة، لكن ما أن تخرج من جوانيتها حتى تكتسب خواصها الإنسانية نظرا لاحتكاكها بعالم المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية كالقانون والأسرة والمجتمع المدني والدولة، هذه العلاقة الجدلية التي تربط الرغبة بالذات وبموضوعات العالم الخارجي، تترتب عنها نتيجتان لا ثالثة لهما: إما أن نخسر أنفسنا أثناء سعينا وراء موضوع خارجي، وإما أن نخسر العالم إذا ما اتجهت الرغبة في سعيها إلى الذات نفسها. وبالتالي فالرغبة لا يمكنها إلا أن تفرز المعادلة عبدا/سيدا، التي تتولد انطلاقا من الصراع بين الوعي الذاتي والوعي الذاتي الآخر، من أجل نزع الاعتراف وإشباع الجوع الاجتماعي. إن لمواجهة الآخر حسب هيغل أهمية مزدوجة بالنسبة لتشكيل الوعي الذاتي، فهو أولا يفتقد ذاته لأنه يجدها في كائن آخر، وهو ثانيا يحل محل الآخر، إذ لا يرى فيه كائنا جوهريا مختلفا عنه بل يرى ذاته في الآخر، الشيء الذي يتولد عنه صراع لا يمكنه أن ينتهي بموت أحد الطرفين، لأن موت أي طرف يعني أن يفقد الوعي الذاتي فرصته في الحصول على الاعتراف، إنه صراع ينتهي بطرف فائز مستقل وطرف تابع منهزم، الطرف الفائز (السيد) هو الذي يدمر الاعتماد على الحياة، أما الطرف المنهزم (العبد) فهو الذي يفضل الحياة على الموت ويمتنع عن تدميرها. وهذا ما يعبر عنه هيغل بقوله «الدليل الوحيد لتحقيق الاعتراف بالذات هو خطر الموت». لكن مع ذلك يبقى موضوع الرغبة الحقيقي في نهاية المطاف هو الحياة. تقول جوديث بيتلر في هذا الصدد: «في الواقع إن شئنا تعقب فينومينولوجيا الروح أكون متحولة على نحو ثابث بفعل اللقاءات التي أمر بها، ويصبح الاعتراف العملية التي أصبح بها آخر مختلفا عما كنت عليه، وبالتالي أفقد القدرة على العودة إلى ما كنت عليه. هناك إذن خسارة تكوينية في عملية الاعتراف لأن الـ»أنا» تمر بتحول عبر فعل الاعتراف، ولا يكون كل ماضيها مجموعا ومعروفا في فعل الاعتراف، إن الفعل يغير تنظيم ذلك الماضي ومعناه في الوقت نفسه الذي يحول فيه حاضر الشخص الذي يتلقى الاعتراف. الاعتراف فعل تصبح فيه العودة إلى الذات مستحيلة لسبب آخر أيضا. يحدث اللقاء مع الآخر تحولا في الذات لا عودة عنه. وما يدرك عن الذات في سياق هذا التبادل أن الذات نوع من الوجود يكون بقاؤه في داخل ذاته أمرا مستحيلا. إن المرء مجبر على الخضوع لما هو خارج ذاته والتوافق معه، ويجد المرء أن الطريق الوحيد لمعرفة نفسه يكون عبر وساطة تقع بمعزل عن ذاته، في خارجها، بفضل مواضعة أو قاعدة لم يصنعها هو نفسه، وفيها لا يمكن للمرء أن يتعرف على نفسه بوصفه المنشئ أو الفاعل في صناعة ذاته. بهذا المعنى إذن، يكون موضوع الاعتراف الهيغيلي لا محالة واقعا في تذبذب بين الخسارة والانتشاء. ويتحقق إمكان الـ»أنا»، وإمكان الكلام والمعرفة الخاصة بالـ»أنا»، في منظور يقتلع منظور ضمير المتكلم الذي يمثل شرطا له». كاتب مغربي المهدي مستقيم Via مكتبة اقرأني http://qrtopa.com/rss

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق