الاثنين، 17 يونيو 2019
كاليسكا : القيوط يطارد غزالا
“وطني هو إعاقتي الأبدية الوحيدة التي لن أشفى منها أبدا”. قال للسجين الذي يراقب آلة السمع المثبتة في أذنه اليسرى، ويسأله إن كانت إعاقته أبدية. لم يهتم السجين الأشقر لإجابته، وربما لم يفهمها، فأكمل أسئلته بطريقة فظة “ما اسمك؟” “من أي بلد أنت”؟ “لماذا أنت هنا؟” نظر إليه طويلا كمن يعاتبه على صلافته ونهض عائدا إلى زنزانته دون أن يكمل طعامه أو يجيب على أسئلته. كان يجلس وحيدا في زنزانته بعد أن ذهب جميع موقوفي مركز التوقيف في العاصمة أتاوا لمتابعة مباراة في الهوكي، اللعبة الوطنية التي لم يتفاعل معها، بين فريق المدينة ومنافسه الأمريكي بأهازيجهم وصراخهم الذي لا يحتمله وهم يعبرون نحو القاعة المفتوحة في نهاية الممر أمامه، ولكي ينفصل عن هذا الصراخ كان عليه أن يرفع آلة السمع عن أذنه اليسرى ويضع السدادة التى يحتفظ بها في أذنه اليمنى. هكذا كانت طريقته في الإنزواء عن أي ضوضاء لا يحتملها، وتعطيل حاسة السمع لديه نهائيا. وكانت تلك الفائدة الوحيدة من العاهة التي أصيب بها في سجن سابق لسجنه هذا، في سجن بلد مولده، والذي يقارنه بسجنه هذا في بلد اختياره، إذا افترضناه اختيارا، ويضحك من شدة ألمه وهو يغمض عينيه على مآسيه التي مازال يحتفظ بها ويعيشها وكأنه لم يغادرها هناك. أمامه، حتى نهاية هذه الليلة، خياران لا ثالث لهما: إما الاعتراف بجريمته وقبول عرض وكيل النيابة بأن يخفف الحكم عليه أو الإنكار والترحيل إلى السجن المركزي في مدينة تورنتو، في اليوم التالي، لتتم محاكمته والتي قد يفشل في كسبها ويعرض نفسه للبقاء في سجن تورنتو مضيفا غربة أخرى لاغتراباته التي لن تنتهي. في غرفة التوقيف تمدد على سريره، شعر بالملل من متابعة السقف الذي كان ينظر إليه طيلة عصر هذا اليوم. أحس بضجر تعطل حاسة السمع التي أحالت المكان إلى ما يشبه غرفة منزوعة الهواء. يتخيل صوتا يصرخ به ويتلفت حوله فلا يراه. جلس إلى المكتب الصغير في الغرفة يتأمل الممر الفارغ والجهة الأخرى للزنازين الخالية قبالته. ردد أغنية قديمة، حاول أن يمارس طقسا مارسه في سجنه السابق، لم تكن الفترة الزمنية تكفي لطقس كهذا، تأمل الكتب التي أمامه، على الرف الوحيد فوق المكتب الصغير. نسخة من القرآن الكريم بالانجليزية, نسخة من الإنجيل المقدس، نسخة من التوراة اليهودية، ونسخة من كتاب لم يعرف ماهيته. حاول أن يقرأ عنوانه ولم يستطع أن يكمل الكلمة الأولى فتهجأه حرفا حرفا كما رُسمت حروفه أمامه Brihadaranyaka Upanishad كان الإسم الثقيل على لسانه مغريا لأن يتصفح دفتي هذا المجهول. تنقل بين فقرة وأخرى واستوقفته إحدى الفقرات فدوَّنها في دفتر صغير يكتب فيه نوتاته الموسيقية. “كان الحكيم يستمع لمريده وهو يسأله: أخبرني أيها المعلم! حين يموت الإنسان ويتلاشى خطابه في النار وتتلاشى أنفاسه في الرياح وبصره في الشمس وعقله في القمر وجسده في الأرض وشَعر جسده في النبات وشَعر رأسه في الأشجار ودمه ومنيَّه في الماء ، فمالذي يبقى من هذا الانسان؟ أجاب الحكيم: لا يمكن أن نتحدث بهذا أمام العامة، تعال لنجلس وحدنا بعيدا عن هنا. وحين انفرد به لم يتحدثا عن شيء سوى الفعل ولم يمتدحا شيئا سوى الفعل. قال الحكيم: اسمع يا صديقي! إنه الفعل الذي يحدد ما سيكون عليه هذا الإنسان. يتحول الإنسان إلى شيء حسن حين يكون فعله حسنا ويتحول إلى القبح إذا كان فعله قبيحا”. أغلق الكتاب وأعاده إلى رف الكتب، وأغلق دفتره الصغير ودسه تحت وسادته. وقف ممسكا بقضبان الزنزانة يسرِّح بصره فيما وراء هذا المركز الذي لا يربطه بالمدينة وضجيجها سوى طريق معبدة يتيمة تنتهي إليه في قدومها نحوه، وإلى الحياة في رحيلها منه. قرّر أن يكتب الاعتراف قبل أن ينام ويسلمه لمحاميه في الصباح. لكنه جثا على ركبتيه ثانية أمام هذا الكتاب الذي لم يستطع أن يقرأ اسمه كما يجب. وتحدث بصوت عالٍ لم يستطع ، وهو في عزلة الأصوات تلك، أن يحدد ارتفاع نبرته: “اسمع أيها الحكيم: ماذا عن الانسان الذي يبدأ حسنا وينتهي قبيحا؟ وماذا عن الإنسان الذي يبدأ قبيحا وينتهي حسنا؟ إلى أي شيء يتحول الأول وإلى أي شيء يتحول الثاني؟ أم أن الأمور عندكم، كما هي عندنا، بخواتيمها. ماذا عن الزمن الذي حوَّل القبيح إلى حسن والحسن إلى قبيح. إلى أي شئ يتحول هذا الزمن؟ تبا لك أيها الحكيم!”. قبل أن يخرج ورقة الاعتراف، ليوقعها، من درج المكتب الصغير أخرج ورقة بيضاء ومظروفًا أبيضَ عليه ختم السجن وعنوانه، وكتب رسالة اعتذار إلى “ستيفاني كاليسكا”؛ وللمرة الأولى كان ينطق اسمها الأخير وهو يكتبه، الاسم الذي ورثته من جدتها، الهندية الحمراء، وترجمته له ذات يوم عن لغتها الأصلية “القيّوط* يطارد غزالا”. في الصباح، سيكون حرّا حتى موعد المحاكمة. سيذهب إلى بيته وينقل أمتعته البسيطة في غياب ستيفاني ويرحل إلى مكان لا يعلمه أحد. سيهاتف فهد غانم، صديقه الوحيد، في هذا العالم منذ أن تعرف إلى فهد غانم والعالم معا. سيخبره برقم هاتفه الجديد وعنوان سكنه؛ على أن يعطيه للمرأة الوحيدة القادرة على الفعل ليعود إنسانا حقيقيا كما كان. سيقول له: قل لرشا أن لا تخبر أحدا سوى أمها وأن تتحاشى شقيقها، العقيد عبدالرحمن اليزاز، حتى يتدبرا أمرهما وأن تنتظره كما انتظرها. سيقول له أن يهتم “بوالديه” وأن يعتذر إليهما عن كل ما بدَرَ منه. وأن يطمئنَّ على المجانين الأربعة “مرهش” وبيتهم المهجور. ويسأله كيف هي الفرقة وبيت الفن وساحات الجهراء، وباص 103. تأمل ورقة الاعتراف، وكتب بخط جميل. “أعترف، أنا فهد غانم العواد، بأنني ارتكبت الجرم المشار إليه أعلاه بكامل قواي العقلية، ودون أن يحرضني أحد، وأعترف بأنني جاهل بالقوانين التي خالفتها وكنت تحت وطأة الشراب”. وقَّع اسمه في المربع المحدد ووضعها في المظروف، ثم استرخى على سريره وأغمض عينيه ولم ينم. Via مكتبة اقرأني http://qrtopa.com/rss
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق