الأربعاء، 8 يوليو 2020
حذاء إبليس
لا، لم يكن إبليسنا هو نفسه إبليس اللعين الذي نعرفه كلنا، والمسؤول ـ من خلال مكائده الخبيثة وعملياته التخريبية داخل رؤوسنا ـ عن كل الموبقات التي نقوم بها، إنما هكذا كان ينعت زملاء محمد الطازج زميلهم بالمدرسة، محمد إبن الثلاثة عشر ربيعاً، ما عاد يذكر كيف التصق به هذا اللقب، ربما ذكر أحد المعلمين ذلك مشيراً لشقاوته، وربما إلى ذكائه، أو ربما بسبب عينيه اللامعتين دائماً، فحتى أمه كانت تستعيذ بالله ليلاً عندما تراهما تلمعان كعيني الهر، لم يكن ليؤذيه أن جميع أقرانه في المدرسة وفي الحارة كانوا قد نسوا اسمه منذ سنين، بل ويمكن القول أن ذلك كان يسعده، فقد كان يغتاظ عندما كانوا يدعونه باسم عائلته، وأحياناً وقاحتهم كانت تطال أمه! فمنهم من نعتها بالطازجة مما أدخله مراراً في عراكٍ وخصامٍ مع زملائه. كما أن لكلمة إبليس سحرها ووقعها الخاص الذي زاد من شعبيته بين أقرانه. وصل محمد الى المسجد، عند المدخل كان هناك عدد لا بأس به من الأحذية لمن اعتكف في المسجد بعد الصلاة، بحث محمد عن حذائه بينها فلم يجده، انتاب قلبه شعور غريب، نوعٌ من القلق ولكنه ليس قلقاً خالصاً لفقدان حذائه، فهو على يقين بأن حذاءه هنا في مكان ما، لقد تركه بباب المسجد أي بعهدة الملائكة، وكل قوى الخير الغيبية. ربما مرور الجموع بعد الصلاة أطاح به بعيداً، تفحص بعينيه جيداً كل حذاء، صفِّ الأحذية ورتبها جميعها، لكن حذاءه لم يظهر، خرج الى الطريق وتفحصها، لم يكن هناك أثر للحذاء، دخل المسجد وبحث عبثاً في كل زواياه، تقدم من أحد الرجال القابعين هناك، كان يعرف ذلك الرجل، يراه دائماً في المسجد، ثيابه رثة، ولحيته كَسَت وجهه وتراخت على صدره، كان يعتبره جزءاً من المسجد، ومثالاً للإنسان الورع التقي. لم يعرف محمد عندما تقدم اليه لماذا شدته أصابع قدمي ذلك الرجل، رآها غريبةً بعض الشيء فهي كبيرة على غير العادة، وأظافرها طالت وكما يبدو تحجرت واسودت. "يا... يا حاج"، همس محمد مقترباً من الرجل، فلم يلتفت إليه. "يا حاج، خرجت اليوم من الصلاة فلم أجد حذائي، أتعرف أين يمكن أن يكون؟" لم يرد الحاج ولم يلتفت. إقترب منه أكثر وارتد مصعوقاً... كان ذاك بدون حياة. لم يعرف محمد ماذا يفعل، جال ببصره في أنحاء المسجد علّه يجد الإمام، إمام الجامع، كان رجلا في متوسط العمر، يلبس ثوباُ قصيرا بعض الشيء وتعتلي رأسه طاقية بيضاء تغطي شعره، لحيته ليست بالطويلة ولكنها كست وجهه ورقبته، بالكاد كان يرى من ورائها فمه، جلس هناك متوسطا فتية يحدثهم بنشوة عن شيء ما، مُكثرا من الإيماء والتلويح باليدين لتصوير ما يقول، محمد لاحظ تطاير الرذاذ من فم الإمام، " يبدو أن المستمعين لا يلاحظون ذلك"، تبادر إلى خاطره. اقترب محمد من الجمع وخاطب الشيخ على استحياء ووجل لقطعه ذلك الحديث الذي لا شك مهم وشيق، "سيدي الشيخ هناك رجل يبدو أنه مات"، التفت الجميع اليه بحركه واحدة كراقصات الباليه وبصمت كصمتهن، مرت بضع ثوان على تلك اللوحة قبل أن يتفوه الشيخ بادئا بتمتمة، سمع بينها محمد حروف سين متتابعة، التقطت أذناه كلمات متقطعة منها الله ومحمد ومكة والملائكة، حتى الشيطان كان بينها، ثم علا الصوت متوجها اليه "ماذا قلت؟" – "هناك،" همس محمد مشيرا بإصبعه الى مكان جلوس الرجل. "مات"، قالها بوجل لكنه أحس عندها بمتعة غريبة في داخله، ربما لكونه محور اهتمام وإصغاء، تلك المتعة عادة لا تُستَشعَر في أوقات كهذه، لكنها هناك وها هي تطغى على التردد والخجل، اعتدل صوت محمد، وأخذ يشرح بنشوة للشيخ كيف رجع الى المسجد ليبحث عن حذائه، ثم عن اقترابه من الرجل ليسأله عنه وكيف وجده ميتا. هرع الجميع الى الرجل، خلفهم محمد، اقترب الشيخ من الرجل وهو ما يزال يتمتم سيناته وهزه من كتفه – "بسم الله الرحمن الرحيم، عبد الحليم، يا عبد الحليم.." عبد الحليم لم يرد، بل انهار على سجاد المسجد. اهتاج المسجد، وتراكض الخلق في اتجاهات مختلفة، الجميع كان يهلل ويحوقل، منهم من قال إنّا لله و إنّا إليه راجعون، ومنهم من كبّر والبعض استعاذ بالله، محمد لم يعرف ما الذي عليه فعله، أراد أن يسأل الشيخ عن الحذاء لكنه تراجع عن ذلك، قدّر أنه من غير المناسب السؤال والحال هو الحال. جلس بركن في المسجد يراقب التراكض من حوله، وشيئا فشيئا أخذته أفكاره الى الخطبة التي سمعها ظهر اليوم، كان قد حفر بذاكرته مقطع من الخطبة التي كانت عن الحور العين: عن أَبِي هريرةَ، رضي الله عنه: أَنَّ رسول اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَال: لكل امرئ مِنهم زوجتَان، كلّ وَاحِدَة منهما يُرَى مخ سَاقِها من وراءِ لحمها من الحُسن. رواه البخاري. فالمؤمن يَرَى مخ ساقِ زوجته من وراءِ سبعينَ ثوبا. وعَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري، رضي الله عنه، أن النَّبي، صلى الله عليه وسلم، قال: لكل رجل مِنهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حُلَّة يبدو مخ ساقِها من ورائها. رواه الترمذي وصححه الألباني. قلّبَ محمد كلام أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، طاف بخياله في الجنة، وحاول عبثا أن يفهم سر الجمال في ظهور مخ العظم. ثم جالت في ذهنه اسئلة... لماذا زوجتان؟ وما معنى "رواه الترمذي" لماذا لم يرويه أبو سعيد الخدري؟ وما سر الألباني الذي يصحح الأحاديث؟ لا بد أن الألباني كان من الصحابة ويعرف جيدا ما كان رسول الله يقوله، فيصحح من أخطأ من الرواة. كما لم يستطع فهم سر بياض الحور العين، مرت بخياله صورة زينب ابنة الجيران، لا يعرف لماذا وكيف ولكنه لطالما رآها أجمل ما خلق الله، زينب سمراء البشرة وسوداء العينين، تعود أن يلعب معها منذ الصغر وبعد أن فرقتهما المدرسة ظلا يتشاركان الطريق اليها، هو لم ير ساقها عدا عن مخ ساقها، ولم تلبس قط سبعين ثوبا، سرت بوجهه ضحكة خفيفة إذ تصورها بسبعين ثوبا! ثم سرعان ما استيقظ من أفكاره. هناك، كانوا قد حملوا الميت الى جهة ما ولكن اللغط كان ما يزال على حاله، قدماه آلمتاه، "ما أنا بفاعل الآن؟"، قام من زاويته ونظر باحثا عن حذائه، هذه المرة كان كمن تأكد بأنه لن يعثر عليه......
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق