الأحد، 26 أغسطس 2018

منامة الشيخ

ثمة ارتباط وثيق بين الوعي الفردي، والجمعي الضاربين في الموروث الذي تنتجه العلاقات الإنسانية المتناسلة/المتعاقبة عبر حقب التاريخ الفردي الضارب في جذور التاريخ الجمعي. من خلال الصيغة الإبداعية التي يعتمدها «ممدوح عبد الستار» في نصه الروائي «منامة الشيخ»* وعنوانه الفرعي المراوغ «ميراث الفتنة»؛ بما يحمله من جدلية هذه العلاقات المشتبكة بين الذاتي والجمعي، عبر شبكة العلاقات الشائهة المؤدية إلى الحالة الرئيسة للمتن الروائي، المعتمد على صيغة التناسل/التوالد التي تعمل على فك مغاليق تاريخ سابق تتعاقب من خلال سرده الخطوط المتوازية للحياة بالمكان، الذي يرتبط جذريا بما يحمله معنى الوطن من أرض وأحداث ترتهن بالفترة الزمنية المحددة لدوران التاريخ الروائي للشخصيات القادمة من أغوار تاريخها الشخصي، ليقدم لنا بجزء أول غير معنون، الخلطة التي أتت منها جذور هذا الميراث، باعتماد الحدث الافتتاحي للرواية، للمشهدية التقريرية التي تقذف بـ «حامد»، ليصير ساردا رئيسيا بتميز روح القهر فيه، من خلال ما يرويه الموروث الشعبي أولا بصيغة الرواة الذين تتواتر من خلالهم الأخبار، لتضع الشخصية، كغيرها من المروي عنهم في سياقهم التاريخي، محل الجدل الدائر، الذي لا يعصم الشخصية من وصمها بميراث الدم الذي انسال من عين الولد الأعور ـ الذي جاء من خلال تلك المرويات ـ والذي يمثل معادلا موضوعيا لحالة الاعتوار التي يسقطها الراوي على الواقع العام الذي يحمل متن هذا السرد بين جنباته، والذي يجعل من الأمر محض صراع بين جانٍ ومجني عليه من خلال مرتكزات المجتمع شبه القبلي، الحامل بين جوانبه العديد من مظاهر الخنوع والتدني، والوقوع في براثن الغواية، ومن ثم النهايات التي تفرضها حالة المرض الأخير للأب «فتوح»/ الرمز الذي تتمحور حوله كل المرويات التي تحمل على عاتقها غواية التاريخ الشفاهي، وعلاقة الابن/ الحاضر، بالأب/ الموروث، التي تأخذ أشكالا من التردي، ثم التحول المفاجيء. «يقول الراوي: الولد الأعور يتعقب «حامد»، وإن أصحابه يأتمرون بأمره. تقول الراوية: «حامد» هو الذي فقأ عين الولد الغلبان، حينما ركل زلطة كبيرة ، فصفت العين اليمنى» ص9 يمثل هذا المفتتح مولجا هاما لتحديد العلاقات الداخلية الخاصة لكل الشخوص الواقعة في دائرة الفتنة وسيطرة الحكي؛ فحامد أو الشخصية التي تقع عليها خلاصة هذا الميراث، تحيط به من قريب أو من بعيد على حد السواء، الروايات المختلفة لكل تلك الشخوص لتصنع منه أسطورة خاصة وإن اختفت في تضاعيف أسطورة «فتوح» رمز الغواية والأبوة العاقة والقداسة الصوفية فيما بعد، بما تطرحه بقوة دلالة «ميراث الغواية» وفتنتها التي تدور على أعدائه ومريديه، ومن خلال تشكيل البنية المجتمعية المقهورة/ الواقعة تحت التأثير الجارف للسلوك البشري المستسلم لغواية الرذيلة والعنف، والتي تأتي من خلال تقنية اختزال الموروث في صور متعددة من صور البطش والجبروت، في شخصيات متعددة لها من الجذور ما يمتد في قاع هذه العلاقات المتشابكة، ومن خلال اختزال التاريخ الجذري لكل من الأب والأم، ومن ثم تقديمه من خلال الصور المتجاورة والمحيطة بالشخصيات الثلاثة؛ لتجسيد حالة من حالات الرسوخ الذهني لها كجذور للفتنة والانحراف، من خلال تدوير الحدث السردي من عدة مناظير تعمل على إثارة الفجوات التي تصير مفاتيح جديدة في كل مرة لرؤى مغايرة تتكامل في النهاية لبلورة الحدث السردي/ الواقعي، ومن خلال تعدد وجهات النظر للرواة الذين يتدخلون، لتغيير وجهة الحكي التي قادتها في بداية السرد، الأم/ الذاكرة التي كانت حياة لضمير هذا المكان/ الزمان الفائت، محملا بآمال وتطلعات شخوصه للتجديف في عكس اتجاه التيار في محاولات فاشلة للحاق بركاب الحياة في علاقات متأخرة معها، فكما تقول الأم، بعين الحكمة المريرة: «والقلب صندوق مغلق، والأسرار لا تنجلي إلا بعد ثلاثين عاما أو يزيد» ص30 ربما لتسمح لزيادة مساحات التأويل والجرح والتعديل التي ترد من الرواة. * «من يصنع أسطورته؟!».. ربما كان هذا هو سؤال النص الأثير الذي يتنامى تأثيره وظهوره على سطح الرواية من خلال التحول إلى الجزء الثاني المعنون بـالعنوان المراوغ «حان اقتطافك؛ فانتبه» حيث يستأثر «حامد» بضمير السرد الذاتي، لهذا الفصل المفصلي، في سرد شبه أسطوري يحمل تاريخ العلاقة الشائكة مع غواية الأب/ الموروث الغاشم، ومن خلال انسيابية السرد المتدفق متخيلا بالبداية، وممارساً للعبة خلق الحياة، على مدار المقاطع القصيرة المتعاقبة التي ترصد جذور عملية القهر التي يمارسها صاحب الموروث الدنس/ فتوح، نحو ما حوله ونحو «حامد» بالأخص، وبما تحمله هذه العلاقات الجديدة التي تطفو على سطح الرواية لتصنع تاريخا جديدا/ آنيا يتكسر فيه الزمن ويختزل على عتبة الإحساس المرير بالألم؛ لتبدو هنا نهاية شخصية مفارقة لما بدأت به شخصية «فتوح»، حيث يتولى السارد الذاتي (حامد) رواية تاريخه السري أو أسطورته الوليدة: «أنى لي أن أعرف، والعرافون والمنجمون لم ينشروا في الأرض أخبار قدومي. اشهدوا لي. لن يشهدوا إلا بما يعوا بأسماعهم وأبصارهم. سأقف على حدود قلوب من يعرفني. سكتوا، والبشارة في قلوبهم. صرخت: أنا سيف العشيرة، فاعرفوني، أعرفكم». ص ص51/52 هذا التقديم شبه الأسطوري للذات الغارقة في مستنقع حيرتها من خلال هذه العلاقات المتناهية في التعقيد والتي يسوقها النص على نحو العلاقة المبتورة مع الجذر/ الموروث، والذي يبدو من خلال إطلاق المسميات على الشخوص التي يفترض فيها الحميمية دون ذكر وشائج العلاقة معها والتي تنتفي فيها صيغ القرابة (الأب، الأخ) وتنجو منها (الأم) في حالات اقترابها منه. «أنَّى لي أن أقف أمام جلال الألم الذي يمزقني، ويجعلني كالبعوضة! إن دخلت فلن أقدر على التحدث والولوج في حضرة الألم. يتأوه فتوح؛ فأطل بجذعي، وأختلس النظر إلى رقدته. أشار فتوح بأصابعه المهترئة ناحيتي، وأنا أخبيء جذعي: ـ يكرهني يا ياسر، وأنا….حين تأوه فتوح، لم أطل بجذعي، ولم أختلس النظر إلى رقدته. وياسر في حضرته بجوار رأسه». ص ص 70/71 هنا يختفي الألم الظاهري للآخرين ويتضاءل تأثيره أمام الألم الداخلي الذي يُمِضْ ذات السارد، انفصالا وتكريسا لمرحلة انتقالية، تطغى فيها أطياف علاقات محرمة تعلي من قيمة المدنس في حياة فتوح/الموروث من خلال انغماسه وإتيانه بالثمار الخبيثة، والوقوع تحت أسر الالتباس: «كلما مررت، أحاول أن أتحقق من سحنة الطفل المحظوظ، حتى أدركت بفراستي أن قسماته تشبه إلى حد كبير قسماتنا. توجست، فربما يقاسمنا ميراثنا، والتاريخ هو الشاهد، والبائعة، وربما تنقلب الموازين، ونكون جميعا مخطئين». ص79 * «اخلع عناءك جملة ً.. ثم انتظرني فوق ظلك»… تختزل الرواية تحت هذا العنوان المتسق مع الروح التائقة إلى الانعتاق من أسر آلامها، بضمير غائب، مغيب عن وعي أيامه السابقة مسيرة «حامد»، في هروبه/ برزخه، من غوايته الأولى، والتي جعلته يقتفي فيها أثر موروثه/ ضده، في علاقة آثمة أيضا مع ذات المرأة التي عاشرها أبوه بدوافعه الشيطانية والتي أنبتت رمزا جديدا للغواية سمي «فتوح»، إمعانا واستمرارا في الوقوع في دائرة المدنس والمحرم، وفي هذا قمة العبث بثوابت الحياة ومرتكزاتها، لتنجذب شخصية «حامد» عبر زمن يتشظى ويتفتت ويتلاشى، إلى مكان آخر مغاير هو (القاهرة)، كفضاء نقيض للمكان الريفي؛ لتصنع وسط الزحام الذي لا يعرفه فيه أحد، أسطورتها الذاتية بعيدا عن تلك التي صنعها المكان والزمان المغايران، التي يصنع منها في نهاية سرد هذا القسم أسطورة جديدة لغواية المقدس في شخص كرامات الشيخ «فتوح!»؛ فيعتمد الكاتب على ضغط الأحداث المتلاحقة في صورة ملتبسة بين الحلمية/ الكابوسية المشعَّرة بشعرة الواقع، من خلال مراحل يقفز بها السرد حياة «حامد»، والتي ربما جاز لنا أن نسمها بالبرزخية التي تجعل منه يوما ما رمزا للمقدس بنفس التبعية التي تقصى بها جذره. «تتأرجح حياة حامد الآن بين أقدام مطاوع. الخطوة سر. والمسافة زمن للجسد الموجوع بفعل حكايته مع ناسه. جسد منسي في كل الأزمنة المعروفة. هو ـ حامد ـ فقط ينظر لتلك الأقدام المفلطحة، والحذاء الأسمر الكالح الذي ينقر أرض الأسفلت». ص100 تبرز هنا شخصية «مطاوع» كعلامة تفسرها دلالة قوله «الخطوة سر»، لتنتشله من براثن ضياعه، ولتمثل رمزا لنجاته واستمراره اتساقا مع حس صوفي روحاني ربما انبثق فجأة ليعيد له اتزانه، وربما قادته قسرا أو مصادفة إلى معانقة دوال النجاح والظهور مرة أخرى على سطح الحياة؛ فـ : «كل البدايات اختيار، وحامد فقط هو الذي يمسك النهايات بدون بداية له، يمسك بيديه الموت والحياة.. لكنه لا يعرف». ليقفز ضمير المخاطب المواجه لهذا الضد/ الجذر، الذي يتحول إلى منافح عن حق ليس له، في ساحة محكمة، بمعنى هو الأقرب إلى محاكمة تاريخ الحالة الشاذة أو العُرف الذي جبل الطرفين على تلك الممارسة من العلاقة الضدية بين جذر وفرع، كان بينهما صراع خفي وصار الآن معلنا.. «… (فتوح، كل المسرات أمامك، وكل شيء قد دُفع إلىَّ منك، ولا أحد يعرفني غيرك، ولا يعرفك غيري، وقد طويت صحيفتي منذ فارقتك متسللا) ألقى حامد نظرة أخيرة ـ وفتوح متسمرـ وقد اغرورقت عيناه، والرعشة بادية على أطرافه، وعناقه لفتوح في قاعة المحكمة أمر صعب، ووداعه له أصعب، وصوته الحقيقي يعلن ويصرخ، شرط الخضوع: الحب، ومضى يبحث عن النيل» ص 110/111 يتحرك الضمير السردي المخاطب للفرع، مختلطا بضمير الغائب الراصد للحالة الخارجية الدالة في اتجاه فتوح/ الجذر، في تحول شديد التطرف لمسار العلاقة المتوترة بين الأب والابن، حاملي ميراث الغواية والفتنة، من حالة العداء إلى حالة المودة التي كانت غائبة أو مفقودة؛ لتكون نقطة الانقلاب في النص الروائي والتي تحمل في تضاعيفها بداية الولوج في قداسة المعنى المغتصبة، من خلال كرامات الشيخ المستجدة أو المبتدعة على حد السواء، إلى فضاء القداسة والروحانية: «في الليلة الكبيرة الأولى لسيدي فتوح، لمح حامد أول المريدين، وتعجب، فقد كان يطوف حول المقام.. العسال، وزوجته، وفتوح الصغير، وياسر بالركن الرابع المخفي.. والمواجه لباب الدخول. يرتدي سروالا قصيرا، وعمامة. واللحية قد طالت، ثم انتفض ياسر فجأة، ونتر الدمعات المتقاطرة على الأرض، ولف حول المقام». ص117 يشعل النص جدل العلاقة بين الواقع والمتخيل في شخصية فتوح، من خلال استنزاف تيمة استخدام تواتر الروايات، التي يشتعل فيها المدنس أولا طارحا تلك الحكايات التي تؤطر وتدعم أسبابا كثيرة لقتل الأسطورة ـ إن جاز لنا التعبير ـ برغم تلك البداية التي يصدرها الكاتب فصل روايته الأخير/ المرجعي، على نحو ما يقول بتلك المشهدية المجسدة لتلك الحال من غواية السحر وصولا إلى تلك الحالة السديمية: «يتجلى الغناء واضحا، حينما يكون الطير على وشك الموت، ورجع الصدى يملأ فراغ الكون الواسع. وبالسحر الذي لا يملكونه، انجذاب الرواة للحكاية. ترنموا بها مع أنفسهم، ثم رددوها بقوة، ثم حكوا الحكايات دون خوف، بعدما أصبح للشيخ مزار» ص121 «ويجزم الرواة: كل الأشياء له، وهو ليس له شيء. هو زمام نفسه، والمصائر صنع مخيلته، هو سؤال دائم، وإجابة مبهمة”. ص212 كما تمعن الرواية في تجسيد الغواية وميراث فتنتها من خلال «حامد» الذي آن له أن يحمل اللواء، امتداداً وتكريساً لهذه الحالة من التغييب التي تتولى الواقع، وتأخذه في براثنها، وكدورة من دورات الفتنة، من خلال شبح جديد يستولد أسطورته الجديدة من رحم أسطورة زائفة. *كاتب وناقد مصري «mohamad attia»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق