(1) أن يذهب باحث إلى أن النبي عليه السلام كان رسولاً وملكاً، وليس بدعاً ولا شذوذاً أن يخالف في ذلك مخالف، فذلك بحث خارج عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها، واستقر لهم فيها مذهب. (2) أنت تعلم أن الرسالة غير الملك، وأنه ليس بينهما شيء من التلازم بوجه من الوجوه، وأن الرسالة مقام والملك مقام آخر، فكم من ملك ليس نبياً ولا رسولاً، وكم لله جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكاً. بل أن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلاً فحسب. ولقد كان عيسى بن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية، وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر، ويؤمن بسلطانه. وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة "أعطوا ما لقيصر لقيصر، ولله لله". وكان يوسف بن يعقوب عليه السلام، عاملاً من العمال، في دولة فرعون مصر. ولا نعرف في تاريخ الرسل من جمع الله له بين الرسالة والملك، إلا قليلاً. فهل كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولاً غير ملك؟ (3) لا نعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في ذلك البحث ولا نجد من تعرض للكلام فيه، بحسب ما أتيح لنا. ولكنا قد نستطيع بطريق الاستنتاج أن نقول: أن المسلم العامي يجنح غالباً إلى اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملكاً رسولاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية مدنية، كان هو ملكها وسيدها. لعل ذلك هو الرأي الذي يتلاءم مع ذوق المسلمين العام، ومع ما يتبادر من أحوالهم في الجملة، ولعله أيضاً هو رأي جمهور العلماء من المسلمين، فانك تراهم، إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع، يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية، ودولة أسسها النبي صلى الله عليه وسلم. وكلام ابن خلدون في مقدمته ينحو ذلك المنحى، فقد جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، شاملة للملك والملك مندرجاً تحتها الخ. لخص رفاعة بك الكلام في الوظائف والعمالات البلدية، خصوصية وعمومية، أهلية داخلية وجهادية، التي هي عبارة عن نظام السلطنة الإسلامية وما يتعلق بها من الحرف والصنائع، والعمالات الشرعية، على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع في ذلك بين الكلام على خدمه الخاصة به صلى الله عليه وسلم، وما يضاف إلى الإمامة العظمى من الأعمال الأولية، كالوزارة والحجابة وولاية البُدْن والسقاية والكتابة وما يضاف إلى العمالات الفقهية من معلم القرآن ومعلم الكتابة ومعلم الفقه، والمفتي وإمام الصلاة والمؤذن...، ثم ذكر التراجمة وكتابة الجيش والعطاء والديوان الزمام، وبيّن أن للديوان أصلاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر العمالات المتعلقة بالأحكام، كالإمارة العامة على النواحي، والقضاء وما يتعلق به من إشهاد الشهود وكتابة الشروط والعقود والمواريث والنفقات، والقسام وناظر البناء للتحديد، وذكر المحتسب والمنادي، ومتولي حراسة المدينة، والجاسوس لأهل المدينة، والسجان ومقيمي الحدود. (4) لاشك في أن الحكومة النبوية كان فيها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطنة والملك. (5) وأول ما يخطر بالبال مثالاً من أمثلة الشؤون الملكية، التي ظهرت أيام النبي صلى الله عليه وسلم، مسألة الجهاد، فقد غزا صلى الله عليه وسلم المخالفين لدينه من قومه العرب، وفتح بلادهم، وغنم أموالهم، وسبي رجالهم ونساءهم، ولاشك في أنه صلى الله عليه وسلم قد امتد بصره إلى ما وراء جزيرة العرب، واستعد للانسياب بجيشه في أقطار الأرض، وبدأ فعلاً يصارع دولة الرومان في الغرب، ويدعو إلى الانقياد لدينه كسرى الفرس في الشرق، ونجاشي الحبشة ومقوقس مصر الخ. وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله، وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان، وتوسيع الملك. دعوة الدين دعوة إلى الله تعالى، قوام تلك الدعوة لا يكون إلا البيان، وتحريك القلوب بوسائل التأثير والإقناع فأما القوة والإكراه فلا يناسبان دعوة يكون الغرض منها هداية القلوب، وتطهير العقائد، وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلاً حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف، ولا غزا قوماً في سبيل الإقناع بدينه، وذلك هو نفس المبدأ الذي يقرره النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يبلغ من كتاب الله. "فإن حاجُّوك فقل أسلمتُ وجْهيَ لله ومن أتبعن، وقل للذين أُوتُوا الكتابَ والأميّين أأسلمتم؟ فأن أَسْلموا فقد اهتَدَوا، وإن تولَّوا فإنما عليك البلاغُ، واللهُ بصير بالعباد". تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، كرسالة إخوانه من قبل، إنما تعتمد على الإقناع والوعظ، وما كان لها أن تعتمد على القوة والبطش، وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية. ولا تقوم حكومة إلا على السيف، وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه. (6) قلنا أن الجهاد كان آية من آيات الدولة الإسلامية، ومثالاً من أمثلة الشئون الملكية، وإليك مثلا آخر،: كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عمل كبير متعلق بالشئون المالية، من حيث الإيرادات والمصروفات، ومن حيث جمع المال من جهاته العديدة، "الزكاة والجزية والغنائم الخ" ومن حيث توزيع ذلك كله بين مصارفه، وكان له صلى الله عليه وسلم سعاة وجباة، يتولون ذلك له، ولاشك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات الحكومات، على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلاً فحسب. (7) وقد يكون من أقوى الأمثلة في هذا الباب ما روى الطبري بإسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه أمارة اليمن وفرقها بين رجاله، وأفرد كل رجل بحيِّزه واستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورِمَع وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلى صنعاء ابن باذام، وعلى عك والاشعرين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجَنَد يَعْلَى بن أبي أمية، وكان معاذ معلما يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت الخ. هنالك كثير غير ما ذكرنا قد وجد في العصر النبوي، مما يمكن اعتباره أثراً من آثار الدولة، ومظهراً من مظاهر الحكومة، ومخايل السلطنة، فمن نظر إلى ذلك من هذه الجهة، ساغ له القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رسول الله تعالى، وكان ملكاً سياسياً أيضاً. (8) إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن إلى الحكم بأنه صلى الله عليه وسلم كان رسولاً وملكاً، فسوف يعترضه حينئذ بحث آخر جدير بالتفكير. فهل كان تأسيسه صلى الله عليه وسلم للمملكة الإسلامية، تصرفه في ذلك الجانب شيئا خارجاً عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم، أم كان جزءاً مما بعثه الله له وأوحى به إليه؟ فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نَعرِف في مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفراً ولا الحاداً، وربما كان مجمولاً على هذا المذهب ما يراه بعض الفرق الإسلامية من إنكار الخلافة في الإسلام مرة واحدة. ولا يهو لك أن تسمع أن للنبي صلى الله عليه وسلم عملاً كهذا خارجاً عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل ذلك العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن، لأن التشدق به غير مألوف في لغة المسلمين، فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع، وتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم، كل ذلك لا يصادم رأياً كهذا ولا يستفظعه. بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسنداً، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيداً. (9) وأما أن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة متمم لها، وداخل فيها، فذلك هو الرأي الذي تلقاه نفوس المسلمين فيما يظهر بالرضا، وهو الذي تشير إليه أساليبهم، وتُؤيده مبادئهم ومذاهبهم، ومن البيّن أن ذلك الرأي لا يمكن تعقله إلا إذا ثبت أن من عمل الرسالة أن يقوم الرسول، بعد تبليغ الدعوة الإلهية بتنفيذها على وجه عملي، أي أن الرسول يكون مبلغاً ومنفذاً معا. (10) غير أن الذين بحثوا في معنى الرسالة، ووقفا على مباحثهم، أغفلوا دائماً أن يعتبروا التنفيذ جزءاً من حقيقة الرسالة، إلا ابن خلدون، فقد جاء في كلامه ما يشير إلى أن الإسلام دون غيره من الملل الأخرى قد اختص بأنه جمع بين الدعوة الدينية وتنفيذها بالفعل، وذلك المعنى ظاهر في عدة مواضع من مقدمته التاريخية، وقد بينه بنوع من البيان في الفصل الذي شرح فيه اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية، واسم الكوهن عند اليهود، فقال: "إعلم أن الملة لابد لها من قائم عند غيبة النبي، يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف. والنوع الإنساني أيضاً، بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري، لابد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم، ويَزَعُهم عن مفاسدهم، بالقهر، وهو المسمى بالملك، والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً، لعموم الدعوة، وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً، اتحدت فيها الخلافة والملك، لتوجه الشوكة من القائمين بها إليها معا، وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة، ولا الجهاد عندهم مشروعا، إلا في المدافعة فقط، فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك، لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأُمم الأُخرى، وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصة أنفسهم الخ". فهو كما ترى يقول، أن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي، وأن السلطة الدينية اجتمعت فيه والسلطة السياسية، دون سائر الأديان. (11) لا نرى لذلك القول دعامة، ولا نجد له سنداً، وهو على ذلك ينافى معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية كما عرفت، وليكن ذلك القول صحيحاً، فقد بقي مشكل آخر عليهم أن يجدوا له جواباً. إذا كان رسول صلى الله عليه وسلم قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته أذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا! نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص، أو ما شئت فسمه، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان ذلك؟ وما سره؟ لعل أولئك الذين يصرون على اعتقادهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قام بدعوة إلى دين جديد، وإلى تأسيس دولة جديدة، ويصرون على أن الدولة التي أنشأها النبي صلى الله عليه وسلم كانت توضع أسسها، وتدار شؤونها، وتنظم أمورها، بوحي الله تعالى أحكم الحاكمين، ثم يضطرهم ذلك إلى اعتقاد أن نظام الدولة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ غاية الكمال التي تعجز عنها عقول البشر، وتريد دونها أفكارهم، لعل أولئك إذا سئلوا عن سر هذا الذي يبدو نقصاً في أنظمة الحكم، وإبهاماً في قواعده، قد يلتمسون للجواب إحدى تلك الخطط التي سنأخذ الآن في بيانها. (12) أما صاحب كتاب تخريج الدلائل السمعية ـ ويوافقه رفاعة بك ـ فقد وجد له من ذلك المأزق مخلصاً سهلاً، فزعم أن الحكومة كانت تشتمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على كل ما يلزم للدولة من عمال وأعمال، وأنظمة مضبوطة، وقواعد محدودة، وسنن مفصلة تفصيلاً، لا مجال بعده لجديد، ولا زيادة لمستزيد. (13) قد يقول قائل يريد أن يؤيد ذلك المذهب بنوع من التأييد، على طريقة أخرى: أنه لا شيء يمنعنا من أن نعتقد أن نظام الدولة زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان متيناً ومحكماً، وكان مشتملاً على جميع أوجه الكمال، التي تلزم لدولة يدبرها رسول من الله، يؤيده الوحي، وتؤازره ملائكة الله، غير أننا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية، ودقائق ما كانت عليه الحكومة النبوية، من نظام بالغ، وإحكام سابغ، لأن الرواة قد تركوا نقل ذلك إلينا، أو أنهم نقلوه، ولكن غاب علمه عنا، أو لسبب آخر، "وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً". (14) تلك خطة لا ينبغي أن يرفضها لأول وهلة عقل العلماء. فإنه لا حرج على نفوسنا أن يخالطها الشك في أننا نجهل كثيراً من شؤون التاريخ النبوي، بل الواقع أننا نجهل منه ومن غيرها أكثر مما نعرف. على أهل العلم أن يؤمنوا دائماً بأن كثيراً من الحقائق محجوب عنهم، وعليهم أن يدأبوا أبداً في كشف مغيبها، واستنباط الجديد منها، ففي ذلك حياة العلم ونماؤه، غير أن احتمال جهلنا ببعض الحقائق لا ينبغي أن يمنعنا من الوثوق بما علمنا منها، واعتبارها حقائق علمية، نبني عليها الأحكام، ونقيم المذاهب، ونبين لها الأسباب، ونستخلص منها النتائج، حتى يظهر لنا ما يخالفها. فنسأل من جديد عن منشأ ذلك الذي عرفنا إلى الآن من الإبهام والاضطراب في نظام الحكومة النبوية، وعن سره ومعناه. (15) هنالك خطة أخرى للجواب عن ذلك السؤال ذلك أن كثيراً مما نسميه اليوم أركان الحكومة، وأنظمة الدولة، وأساس الحكم،، إنما هي اصطلاحات عارضة، وأوضاع مصنوعة، وليست هي في الواقع ضرورية لنظام دولة تريد أن تكون دولة البساطة، وحكومة الفطرة، التي ترفض كل تكلف، وكل ما لا حاجة بالفطرة البسيطة إليه. وكل ما يمكن ملاحظته على الدولة النبوية يرجع عند التأمل إلى معنى واحد، ذلك هو خلوها من تلك المظاهر التي صارت اليوم عند علماء السياسة من أركان الحكومة المدنية، وهي في حقيقة الأمر غير واجبة، ولا يكون الإخلال بها حتما نقصاً في الحكم، ولا مظهراً من مظاهر الفوضى والاختلال، فذلك تأويل ما يلاحظ على الدولة النبوية مما قد يعد اضطراباً. (16) كان محمد صلى الله عليه وسلم يحب البساطة، ويكره التكلف، وعلى البساطة الخالصة التي لا شائبة فيها قامت حياته الخاصة والعامة، كان يدعو إلى البساطة في القول والعمل، كما في حديثه مع جرير بن عبد الله البجلي "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف". كان يعاشر الناس من غير تكلف، ويجري معهم على منهج البساطة، وقد "روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يمازح أصحابه... وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة" وكان يقول لأصحابه "إني أكره أن أتميز عليكم، فأن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه" وروي أنه صلى الله عليه وسلم "ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثْماً". كان صلى الله عليه وسلم يكره الرياء والتكلف، ويقول في حجة الوداع "اللهم اجعله حجاً مبروراً، لا رياء فيه ولا سمعة" وقال الله تعالى مخاطباً له عليه السلام "قُل ما أسألكم عليه من أجْرٍٍ وما أنا من المتكلفين" وكان فيما يبلغ عن شريعة الله تعالى يأمر الناس بالقواعد البسيطة، وينهاهم عن التكلف، ويناديهم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" "وأن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" "وما جَعل عليكم في الدين من حَرج". ولا تجد فيما جاء به من الشرائع حكماً يرجع إلا إلى المبادئ الأمية الساذجة. فلم يكلفهم في أوقات الصلاة أن يحسبوا درج الشمس، ولا مطالع النجوم، بل جعل مناط ذلك ما يحس به كل إنسان من حركة الشمس المشاهدة في السماء، وجعل الصوم والحج ومناسك العبادة متصلة بحركة القمر، وحركة القمر محسوسة لا تحتاج إلى حساب ولا رصد، ولم يكلفنا في الصوم أن نحسب لهلال رمضان، بل جعل ذلك منوطاً برؤية الهلال رؤية بسيطة لا تكلف فيها، وجاء في ذلك الحديث "نحن أمة أمية الخ" وحديث صوموا لرؤيته الخ، ولم يكلفنا حساب اليوم بالساعات والدقائق، بل ربطه كذلك بالشيء المحسوس، الذي لا خفاء فيه "وَكُلوا واشْربُوا حتى يَتَبيّنَ لكمُ الْخَيْطُ الأَبيضُ من الخيْطِ الأسودِ من الفجر ثم أَتمُّوا الصّيامَ إلى الليْلِ". كان صلى الله عليه وسلم أمياً ورسولاً إلى الأميين، فما كان يخرج في شيء من حياته الخاصة والعامة ولا في شريعته عن أصول الأمية، ولا عن مقتضيات السذاجة والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، فلعل ذلك الذي رأينا في نظام الحكم أيام النبي صلى الله عليه وسلم هو النظام الذي تقضي به البساطة الفطرية. ولا ريب في أن كثيراً من نظم الحكم في الوقت الحاضر إنما هي أوضاع وتكلفات، وزخارف طال بنا عهدنا فألفناها، حتى تخيلناها من أركان الحكم وأصول النظام، وهي إذا تأملت ليست من ذلك في شيء. إن هذا الذي يبدو لنا إبهاماً أو اضطراباً أو نقصاً في نظام الحكومة النبوية لم يكن إلا البساطة بعينها، والفطرة التي لا عيب فيها. (17) لو كنا نريد أن نختار لنا طريقاً من بين تلك الطرق التي قصصنا عليك، لكان ذلك الرأي أدنى إلى اختيارنا، فإنه بالدين أشبه. لكنا لا نستطيع أن نتخذه لنا رأياً، لأنك إن تأملت وجدته غير وجيه ولا صحيح. حق أن كثيراً من أنظمة الحكومات الحديثة أوضاع وتكلفات، وأن فيها ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة، ولكن من الأكيد الذي لا يقبل شكاً أيضاً أن في كثير مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفاً ولا مصنوعاً، ولا هو مما ينافي الذوق الفطري البسيط، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ولا ينبغي لحكومة ذات مدنية وعمران أن تهمل الأخذ به. وهل من سلامة الفطرة وبساطة الطبع مثلاً أن لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد إيرادها ومصروفاتها، أو أن لا يكون لها دواوين تضبط مختلف شؤونها الداخلية والخارجية، إلى غير ذلك ـ وأنه لكثير ـ مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم. إنه ليكون تعسفاً غير مقبول أن يعلل ذلك الذي يبدو من نقص المظاهر الحكومية زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأن منشأة سلامة الفطرة، ومجانبة التكلف. فنلتمس وجهاً آخر لحل ذلك الإشكال. --------------------------- المصدر : الإسلام وأصول الحكم
source https://qrtopa.com/book/14586
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق