الثلاثاء، 13 مارس 2018

رواية الزمن الآخر

الزمن الآخر

أحس “سيد” بأصابع “جاد الله مسعود” التُربي وهي تفك رباط رأسه من الشاش، وتدفع تلك الأصابع النحيلة التي يعرفها بعض التراب، بينما يحوقل فم “جاد الله” الخالي من ثنيتيه الأماميتين. في الخارج كان ثلاثة من عجائز المقرئين يلقنونه الإجابات التي سيواجه بها امتحانًا لا بد للجميع أن يعبره. وإلا سيكون المصير، كما يحذره الشيوخ في الخارج، جهنم، والعياذ بالله.
قال أحد الشيوخ: “يا عبد الله، يا بن أَمّة الله، لقد توفاك الله، وأنت الآن في رحمته، فاحفظ العهد الذي خرجت عليه من الدنيا.. شهادة أن لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمد رسول الله، وأن دينك الإسلام، وأن الموت حق”. ورد جمع الرجال الذين كانوا يقفون في الخارج؛ انتظاراً للأخذ على الأيدي: “حق”. أكمل الشيوخ: “وأن الجنة حق”. وترد الجوقة الحزينة: “حق”. “وأن النار حق”. فترد الجوقة: “حق”. “وأن الساعة آتية لا ريب فيها. تثبت إذا جاءك الملكان للحساب يا عبد الله. يا بن أَمَّة الله.”
في الداخل يستمع “سيد” إلى الأصوات التي تأتيه من الخارج بينما هو وحيد. يدرك، الآن فقط، أنهم إنما ينسبون الميت إلى أُمِه وقت التلقين لأنه في تلك اللحظات وإلى الأبد يكون وحيدًا، ومكسور الجناح كامرأة فقيرة.. وربما يتوسلون للقَوِي الجبار أن يرحم روحه الصاعدة وجسده المُلقى على التراب الذي منه خُلِقَ وإليه يعود.
مسكونًا بالرعب ظل “سيد إدريس” ينتظر اللحظة الحاسمة منذ أن فقد الروح، لكنه لم يفقد السمع. ظلت الأصوات تقتحم عليه وحدته لتؤنسه. حالما سيذهبون لا بد أن يشحذ ذاكرته؛ انتظاراً للحظة دخول الملاكين.
لو كان بجسده روحٌ للحظة واحدة؛ لارتجف ارتجافة تدمر هذا الجسد الذي لُفَّ بقماش الدبلان، وعطّر بالكافور، والمسك. ستتناثر كل قطعة من جسده، الذي شهد بقوته الجميع، في ناحية؛ تأثرًا بذاكرة الرعب التي عاشها لحظات في خطب الجمعة. هو الآن في اتجاه الدخول إليها..

أغْلِقَ الباب بصفين من قوالب الطوب الأحمر الممسوك بالطين والتبن. يعرف “سيد”، ويراقب بأذني وطواط اللمسات الأخيرة على الباب من الخارج حين يُحاف بالطين؛ كي يفتح بسهولة للقادم الجديد.
لم يتغير شيء منذ أن غادرت روحه جسده. لو كانت له إرادة حديدية لأمسك روحه، أو لأغلق عليها منافذ فمه، وأنفه، لكن ما حدث حدث، وانضم إلى زمرة الموتى. من لحظتها وهو يتابع بحرص ودهشة ما يحدث له دون أن يقدر على التدخل.
هو ممدد الآن على التراب الناعم الذي ابتلت بعض أجزائه بمخاط، ودم كريه الرائحة. فوجئ بمن يوجه إليه السؤال بعد أن انمحت الأصوات تمامًا في الخارج.
– انت مين يا اللي هالل علينا؟
لم يكن أمامه من طريقه للنجاة سوى الرد. هنا، كما تعلّم حيًا، وكما لُقن ميتًا منذ قليل، لا بد أن يحسن الأدب في الرد. إذا تأخرت الإجابة تكون النار جاهزة لنهشه دون استئناف.. “أيوه يا سيد، الحكم هنا مستعجل، وفين وفين على يوم القيامة لما تقف وكتابك في إيدك. اقرا براحتك. وإنت معاك شهادة محو الأمية بعد ما طلعت من سادسة إبتدائي، ولو من غير شهادة هتقرا غصبن عنك”. حدث “سيد” نفسه قبل أن يستجمع ذاكرته المشغولة بجسده الخامد:
– أنا سيد إدريس.. الأسطى سيد إدريس المنجد.
جاء الكلام متحشرجًا، لكن نبراته رغم ضعفها تبدو ملهوفة، ومشتاقة. كأنما يود الصوت أن يحتضنه.
– سيد ابني!
عرف “سيد” في الصوت الموجوع أباه الراحل. رد بسرعة:
– أيوه يا آبا. الحمد لله إنك لسه بتتكلم.. أنا مت يا آبا.. بكره العيد.. سِبْت العيال وأمهم من غير راجل.
قال الصوت الذي يأتيه كل فترة ليست بالقصيرة:
– اتكلم بهدوء.. ممكن حد يكون سامعنا..
وجد “سيد” متنفسًا، فرد مسرعًا:
– هو فيه تصنيت هنا كمان يا آبا؟!
كثيرًا ما كان “سيد” يفاجئ أحد رعاع الشارع من المراهقين وهم يتلصصون عليه هو وزوجته تحت شباك حجرة نومه التي تطل على الشارع. قال له أحد جيرانه مَرًّة وهو يداعبه لينبهه حينما كان ما يزال هناك: “خلي بالك يا أسطى سيد، العيال الصيع بيدخلوا جوا الحيط بالليل”. يُسخِّن”سيد” قليلًا من المياه إلى درجة أن تلسع صاحبها، لا أن تحرقه، ثم يصعد بهدوء إلى أعلى، ويصب الماء على رأس الشاب الصغير، فيجري الشاب مسرعًا حين ينظر للأعلى، ويعرف أنه قد كُشِفَ.
الآن ماذا يفعل “سيد” إذا تنصت أحد على أسراره ومخاوفه التي يبثهما لأبيه وهما راقدان جنبًا إلى جنب بلا حيله؟! أحدهما تحول إلى تل من التراب، يبرز منه هيكل من العظام البيضاء ملطخة ببقايا أنسجة متعفنة. أما الثاني فينتظر منذ الليلة الأولى مصيره.
قال “سيد” بصوت هادئ؛ حتى لا ينسى الدرس الذي تعلمه من الخارج، متأكدًا أن أباه سيسمعه؛ فليس العالم هنا مثل هناك:
– إيه اللي بيحصل لي هنا يا آبا؟
لم تأته إجابة سريعة شافية. أحس أن أباه يحترز؛ فهو الخبير. ربما مَرَّ بتجارب عدة مع أبيه، جد سيد، في هذا المكان الخانق. أعاد “سيد” بصوت أعلى قليلًا هذه المرة غير عابئ بالتحذيرات؛ لأنه يريد إجابة تُطَمئِنه، وتوقف الرجفة التي بدأتها ذاكرته وأحس صداها في جسده.
– إيه اللي هايحصل لي هنا يا آبا بالظبط؟
قال صوت الأب كأنه قادم من أعماق سحيقة:
– اصبر.
هل راح أبوه في غيبوبة طويلة قبل أن يجيبه؟
ربما لا يملك أحد هنا شيئًا سوى المنح الصغيرة، والسرقات التي يأخذونها غفلة من ملكي الحساب: ناكر ونكير. قال “سيد” لنفسه: “ناقر ونقير.. يعني واحد في صفك يحامي عنك يا سيد، وواحد يجيب لك اللي أنت عملته بالتفصيل. حتى تفكيرك الوسخ وانت مع نفسك.”!
يريد “سيد” أن يستعد أكثر للحظة القادمة. إنه يشعر بكل شيء يدب في الخارج. يشعر بكل همهمة صغيرة. عواء ذئاب جوعانة في الخارج. فئران صغيرة تقضم عظامًا في المقبرة المجاورة، مقبرة عمتيه وأمهما، ربما لا يكفان عن النقر والشجار فهما لم يتفقا أبدًا. “ليه أمِّنت مقبرتك يا آبا ضد الديابة، والفران، وسبت أمك، واختينك، وأمهم زي ما عاشوا من غير تأمين؟!”، وكأنما كان “سيد” يؤنب أباه، وعاد سريعًا إلى ورطته هو فقال متعجلًا أباه للمرة الثالثة:
– ها ييجوا امتى يسألوني يا آبا؟ وأقول إيه بالظبط؟
بالرغم من أنه تدرب على أيدي خطباء المساجد، وبعض الخطب التي كان يضعها في المسجل على إجابات محددة، كما تم تلقينه للمرة الأخيرة في الخارج، إلا أن الخوف يتملكه من نسيان إجابة أحد تلك الأسئلة الثلاثة التي يتوقف عليها مصيره في البرزخ المؤدي إلى الخلود. يشعر أنه سيتعجل، فيخطئ، ويذهب إلى الجحيم دون رد. كأنه في امتحان الصف السادس الابتدائي الذي دخله ثلاث مرات في ثلاث سنوات متوالية فشل في ثلاثتها، وخرج بعدها كارهًا المدارس ورائحتها. أراه أبوه أيامها أيامًا مُرَّة في الغيط.. من الفجر، وحتى آذان المغرب في الغيط، ثم رأى أن لا فائدة. أهل الخير الذين حرضتهم أم سيد قالوا لأبيه: “إن الولد وحيد. وأنتم كبرتم، ولن تخاووه. ولد حليوة وحرام فيه الفلاحة. الصنعة بتجيب دهب”.
لف والد “سيد” على مبيضي المحارة، والبنائين.
ازدادت كراهية “سيد” للصنعة لأنه رأى فيها، وفي أهلها، مثلما يرى في أهله وهو في الغيط، قسوة وذل. كان أبوه الماكر يريد أن يؤدبه أولًا ليعرف فضل الصنعة المميزة. حتى دفعه أخيرًا إلى الأسطى “محروس” المنجد. تعلم “سيد” خطوة بخطوة مع “صبري” ابن معلمه إلى أن مات الأب، وورث “صبري” دكانه الذي وسع في نشاطه، فأصبح يجهز أنتريهات، وقعدات عربي، وستائر بُرقُع فارهة.
رافقه “سيد” من الصبا حتى الكهولة.
كانت ذاكرة “سيد” نشطة بطريقة مريبة. لم يحدث وهو هناك في الحياة الدنيا أن أتت على ذهنه كل هذه الأفكار، والرغبة في الحذر حد الرعب. مراقبًا في الوقت نفسه أية كلمة تأتيه من أبيه.

أتى الصوت بعد مدة غير قصيرة من أبيه، ومن نفس القاع السحيق:
– والله يا ابني مش باين لها آخرة. أنا بقول إيه بس؟! أستغفر الله العظيم. ما هو مفيش حد معبرنا وإحنا بندوب أونطه.
تمهل “سيد” في الرد رغم شعورة بالمفاجأة التي لم يحدد بعد هل أسعدته، أم أرعبته. أدرك “سيد” أن شيم الموتى التمهل، وعدم الاندفاع. بالتجربة يعرف أنه سيتعلم الكثير، لكن لمن يُعلِّم هذا الكثير؟! لقد ترك امرأته دون ولد يقدم عليهم حين يموت. سيظل في دائرة لا تنتهي. هو، وأبوه، وأعمامه، وأبناؤهم.
دوَّر الكلام الذي فوجئ به تمامًا في رأسه. مقلدًا أباه، ومهوشًا في الوقت نفسه لأي كائن يكون في حالة إنصات للحوار، فيتدخل، ويحسم الأمر بتجربته هو الآخر:
– بتقول إيه يا آبا؟! مفيش آخرة؟! يا لهوي! أُمَّال اللي كنا بنعمله دا إيه؟! صلى وصلينا. زكا وزكينا، ربنا أعلم إن كل قرش كان بيطلع كنا أولى بيه. صوم ولسه ولله الحمد مخلص آخر يوم من شويه.
ولما تأخر أبوه في الرد عن المرات السابقة رفع “سيد” من حدة نبرته حتى يعبِّره أحدهم:
– يعني إيه يا آبا؟ كنت أخلبص وأعكعك في الدنيا وخلاص؟ ما ترعبنيش يا آبا؟
وأتاه صوت أبيه سريعًا هذه المرَّة:
– تقضيها، وتخلبص إيه يا ابن الكلب؟! هو انت كان حيلتك حاجة؟! اتخرص، واستنا.
ماذا سيفعل “سيد” حين يفكر في تقضية أيامه هناك. لم يترك شيئًا إلا وفعله. غير أنه مُيز عن رفيقه “صبري”، وبعض أصدقائه في ضبطه لنفسه قبل السقوط كليًا في أي بئر.. من الحشيش تنفس غير أن صفة حشاش لم تطله فهو كان يشرب، كما يخبر أصدقاءه، حلوانيًا، كل أسبوع مرة واحدة. للنسوان اللعوب داعب، لكنه أبدًا لم يضبط عند إحداهن. كان يعود تائبًا بعد كل خطيئة، ثم يعود لما فعل. لما تزوج “نعيمة” لم يفكر في مداعبة امرأة أخرى قط، وكأن التوبة قد منحته جسدًا يَرُده. كانت “نعيمة” رغم الخناقات التي تشعلها الغيرة هي الحلم متجسدًا أمامه.
“أين يذهب رأسك يا سيد؟!” عاد يلوم نفسه على تضييع الوقت في عالم فات يستنفد أعصابه؛ حتى لا تباغته المفاجآت هنا. كانت نحنحة أبيه للتنبيه قد تكررت هذه المرة كثيرًا حتى ينتبه “سيد” لما سيقال:
– إيوه يا آبا، أنا سامعك.
– اسمع يا ابني كويس. أنا سمعت إن فيه ناس بتحاول تهرب، وبتخرج فعلًا، بس دا في أول يوم. أنا كنت هاجرب بس خُفْت. وبعدين هارجع أشيل همّ إيه تاني؟! خللي بالك إذا فشلت، أو اتعرفت بره بيكون مصيرك أسود، ولا هاقول اسود ليه؟! هو فيه إيه؟!
________________________________
كاتب من مصر
الفصل الثالث من رواية بعنوان “الزمن الآخر” صادرة عن “المجلس الأعلى للثقافة” في مصر، وقد فازت بجائزة المواهب الأولى في دورة إبراهيم أصلان عام 2012.

الصورة من فيلم “الخروج للنهار” للمخرجة المصرية هالة لطفي. للتعرف على الفيلم يمكنكم قراءة (“الخروج للنهار”..بيت لا يسجن حياة ولا يطلق سراحها) ضمن مواد هذا العدد.
*****

 

لتحميل الرواية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق